بوابة بالعربي الإخبارية

سامر شقير يكتب: القياس المقارن برؤية سعودية — حين يصبح الأفضل معيارًا

الثلاثاء 16 سبتمبر 2025 05:24 مـ 23 ربيع أول 1447 هـ
الخبير الاقتصادي/ سامر شقير
الخبير الاقتصادي/ سامر شقير

في عالمٍ يتغيّر بسرعة، لا يكفي أن نُحسّن المتوسط؛ المطلوب أن نكتشف الأفضل، نفهم لماذا هو الأفضل، ثم نعمّمه. هذه هي روح القياس المقارن التشغيلي التي خرجت من أرض المصنع، وتجسّدت مبكرًا في ممارسة بوينغ المعروفة بـ«أزمنة الأبطال»: قارن المهمة نفسها بين مواقع متعددة، حدّد الأسرع والأدق، ادرس أساليبه، ثم انقل «الوصفة الرابحة» إلى المنظمة كلها. واليوم تُترجم السعودية هذه الفلسفة إلى عملٍ وطنيٍّ منسّق ضمن مسار رؤية 2030.

من «أزمنة الأبطال» إلى سياسة تشغيل وطنية

لم تكن «أزمنة الأبطال» تمجيدًا لأفرادٍ بعينهم بقدر ما كانت منهجًا علميًا لاكتشاف أفضل طريقة للعمل. الفكرة بسيطة وعميقة معًا: لا ننظر إلى الرقم المجرد بقدر ما نقرأ السلوكيات وترتيب الخطوات؛ كيف تُنظَّم المهمة؟ بأي أدوات تُنفَّذ؟ وكيف يتواصل الفريق في نقطة التسليم؟ ومع تعميم هذا التسلسل الأمثل عبر المواقع، قفزت الإنتاجية واتسعت دوائر الإتقان. وعلى المستوى الوطني، تتحوّل الفكرة إلى سياسة تشغيلية واضحة: نقيس المهام المتطابقة عبر كيانات ومناطق مختلفة، نلتقط أفضل طريقة مثبتة، ثم نحوّلها إلى معيار معتمد في التعليم والتشغيل والحوكمة.

كيف يُحدث القياس المقارن فرقًا في القطاعات السعودية

يظهر أثر هذا النهج جليًّا في قطاعات السعودية الحيوية. ففي الطيران والدفاع، يسمح القياس المقارن بمقارنة زمن الدورة وجودة الإنجاز ووقت التسليم في صيانة الطائرات وتجميع المكونات، بحيث يُعمَّم التسلسل الأكثر موثوقية وفاعلية بين الورش والحظائر. وفي المشروعات العملاقة كنيوم، تساعد المقارنات على ضبط وتيرة التركيب وتماسك الجدولة بين المقاولين، فتتشكّل «طريقة معيارية» تُنقل من موقع إلى آخر دون فقدان للسرعة أو الجودة. وفي النفط والغاز والبتروكيماويات، تُقارن أداء الوحدات ومتوسط زمن الإصلاح ومتوسط الزمن بين الأعطال بين الحقول والمصانع، لتسود أساليب تشغيل وصيانة تحقق أثرًا أعلى بتكلفة أقل. أمّا في الموانئ واللوجستيات، فإن قراءة كفاءة الحركة وزمن التوقف والالتزام بالمواعيد تُوحّد أفضل الممارسات وتحولها إلى معيار منظومي يرفع السقف على امتداد الشبكة.

التكنولوجيا الممكنة: تسريع الفلسفة ذاتها

وإذا كانت بوينغ أمس قد اعتمدت «ساعة الإيقاف»، فإن السعودية اليوم تُسرّع الفلسفة ذاتها بتقنيات حديثة. إنترنت الأشياء يوفّر استشعارًا لحظيًا لزمن الدورة، واستخدام المعدات، واستهلاك الطاقة. والذكاء الاصطناعي ورؤية الحاسوب يحللان الفيديو وسلاسل الأحداث لاكتشاف الاختناقات واقتراح تسلسلٍ أدق للخطوات. والتوائم الرقمية تتيح محاكاة «ماذا لو؟» قبل التعميم، فيما تختصر تحليلات الحافة المسافة بين المعلومة والقرار، فيصل التوجيه إلى المشرف في لحظته.

إطار عملي لتطبيق المنهج

ولكي يتحوّل القياس المقارن من فكرةٍ مُقنِعة إلى ممارسةٍ منتظمة، يلزم مسارٌ متدرّج وواضح. يبدأ بتعريف العمليات المتطابقة التي يصحّ قياسها عبر المواقع، ثم اختيار عددٍ قليلٍ من المؤشرات الواضحة والمتوازنة بين السرعة والجودة والسلامة والتكلفة. بعد ذلك تُوحَّد أدوات القياس وأساليب جمع البيانات حتى يصبح «الرقم» قابلاً للمقارنة فعلًا. هنا يظهر «الأبطال» عبر أداءٍ متكرر لا عبر لقطةٍ وحيدة، فتُدرَس سلوكياتهم وتسلسل خطواتهم بتفاصيلها الصغيرة التي تصنع الفارق. تُجرَّب الطريقة الرابحة في مواقع أخرى لضبطها مع اختلاف السياق، ثم تُدمَج في إجراءات التشغيل القياسية وبرامج التدريب ونُظم الحوافز، مع إبقاء حلقة مراجعة مستمرة تسمح بظهور أبطالٍ جدد يدفعون المعيار خطوةً إلى الأمام.

حوكمة، حوافز، وثقافة: الأبعاد غير التقنية للنجاح

ولا يكتمل النجاح دون أبعادٍ غير تقنية. حوكمة القياس مطلوبة لتثبيت التعاريف والمرجعيات واعتماد «المعيار الوطني» لكل عملية رئيسية. والحوافز الذكية ينبغي أن تكافئ تبنّي الطريقة وتحقيق النتائج معًا، لا مطاردة رقمٍ منفرد قد يضلّل الصورة. وثقافة التعلم تجعل الأداء المتفوّق معرفةً مشتركة عبر ورش قصيرة، وفيديوهات دقيقة، وزيارات تبادلية بين المواقع. أمّا نزاهة البيانات فتصونها الشفافية والتحقق المستقل، مع مراعاة الخصوصية وسلامة العاملين كي لا تدفعنا الأرقام إلى ممارساتٍ خطرة.

لماذا هذا النهج ملائم لرؤية 2030؟

يلائم هذا النهج رؤية 2030 لأنه يُوحّد التعلّم عبر منظوماتٍ ضخمة ومتنوعة على امتداد بلدٍ بحجم قارة. ما ينجح في ورشةٍ بجدة يصبح معيارًا في الرياض، وما يثبت فعاليته في الدمام يُستنسخ في جازان، بسرعةٍ وثقةٍ وأثرٍ تراكمي. هكذا ينتقل التميّز من إنجازاتٍ فردية متناثرة إلى تفوقٍ وطنيٍ مُمنهج يحفظ المعرفة ويضاعف أثرها.

الخلاصة

وفي الخلاصة، الفكرة أبعد من تحسين رقمٍ هنا أو هناك. إنّها انتقالٌ من رؤية الأفضل إلى تثبيت الأفضل. نسأل كل يوم: ما هي أفضل طريقة متاحة الآن؟ وكيف نجعلها طريقة الجميع؟ والإجابة تبدأ بخطوةٍ عملية قريبة: تعريف عمليةٍ واحدة قابلة للمقارنة هذا الأسبوع، قياسُها كما ينبغي، ثم تعميم ما يثبت نجاعته بلا تأخير. بهذه الروح، يصبح التفوّق عادةً، ويغدو المعيار الوطني هو المستوى الطبيعي للأداء لا الاستثناء.