علي سعيد.. صحفي من زمن المهنة وأخلاقها

لكل مهنة زمانها؛ وأهلها، وهكذا الصحافة، التي قضيت في أروقتها ومؤسساتها الحزبية والخاصة رحلة في البحث عن الذات، داخل الخبر والمعلومة وبين المصادر، أعايش أهل الفضل، وأرباب النفاق أيضا.
كانت تربيتي المهنية الأولى داخل جريدة العربي في 30 شارع يعقوب بميدان لاظوغلي، وأول تقاريري الصحفية التي سعدت بوضع اسمي عليها يعود إلى 26 مارس عام 1999، هناك؛ وفي ذلك الزمن، كان حظنا في تفرغ أساتذة ليعلموننا شيئا، ويقومون اندفاعاتنا ويعدلون قناعاتنا تجاه حقائق ثابتة، وبين أهل الفضل الكتاب الكبار طلعت إسماعيل و أكرم القصاص و وائل قنديل و داهية التحقيقات الراحل سامي عبد الخالق، مع صف مشاغب يضم أسامة داود و مصطفى خلاف، والحالمين خليل أبو شادي و على الفاتح و على سعيد، وجملة أساتذة تراقبهم في الطابق الأعلى خلسة مثل سعيد شعيب و سعيد وهبه و جمال فهمي و نور الهدى زكي و أشرف عبد الشافي و إبراهيم عارف والراحل محمد طعيمة.
أذكر أن التجربة شهدت ثنائيا مبهرا هما على الفاتح و على سعيد، لفترة لم أفهم فيها كيف ناور أبناء جيلهم عقيدة رئيس تحرير وربما الإدارة ذاتها، وقد آمن متزنون بأن الناصري الأخير في هذا الكيان هو ضياء الدين داود رئيس الحزب نفسه رحمه الله.
كانت انطلاقة على و على راقية تتذوق فيها صحافة توازن بين إلتزام الخط السياسي وتحييد تناقضات القائمين عليه مع أصول المهنة أو فهمهما لها، ويذكر كثيرون عقب إلتحاقهما سويا بالنقابة مشاغباتهما المصاحبة لما سميت بوثيقة الإسكندرية وما تردد بعد زوال حكم صدام حسين من شعارات مثل "الطغاة يجلبون الغزاة"، وربما حالة الغضب على مسارهما وتفسيرهما الفلسفي لمستجدات السياسة، في الوقت الذي أدير فيه حوار وطني برعاية صفوت الشريف عام 2004، واعترض عليه صف ناصري رغم مشاركة رئيس الحزب به وحنكته في تقديم رؤية أكثر تقدمية، أظن أنها ساهمت في إعادة تقييم الوضع داخل حزب الحكومة، فكانت التعديلات الدستورية التي سمحت بانتخاب رئيس الجمهورية لأول مرة قبيل نهاية العام 2005.
داخل "العربي"، صاحبت على و على و خليل، وكان على سعيد أكثر تفاعلا مع طموحي خاصة خلال فترة العودة إلى الإصدار الأسبوعي بعد سنة و 24 يوما عشنا خلالها تجربة العدد اليومي، وكانت الأفكار ذاتية أو موجهة، والأخيرة لم تكن مقبولة كثيرا بالنسبة لي، فقل إنتاجي إلا من تحقيقات مشتركة مع علي سعيد.
بعد ديسمبر 2004 وحضور تظاهرات "كفاية" في الشارع المصري، انتقل شعار الحركة المصرية من أجل التغيير إلى نفوس كثيرين، داخل مؤسسات العمل، والأحزاب أيضا، ولم أكن يوما من المنتمين حزبيا ولاقيت عقابا شديدا على ذلك، وما هي إلا شهور قليلة حتى التحقت مصادفة بالعمل في جريدة الكرامة رفقة الأستاذ جمال فهمي رئيس التحرير التنفيذي وقتئذ، وفيها ظللت أتلقى أجرا عادلا حتى ابتعد عن منصبه بعد العدد التاسع عشر، ليحضر من امتنعت عن تلقى أجرى في عهده، مكتفيا بسقف عال في النشر ومطالعة عناوين مقالاته الموجهة ضد مبارك من عينة "أشعر بالعار لأنك الرئيس"، وباحثا عن مصدر دخل حقيقي بعيدا عن صفقته المعتادة في بيع حقوق من حوله لمن يعمل تحت إمرتهم.
انتهى المشهد سريعا بين إصدار في 27 سبتمبر 2005 و 23 أبريل 2007، حيث الحبسة الكارثية المعتادة التي تأكل أو ترجئ حقوق الصحفيين لدى الزعامات السياسية المسيطرة وقتئذ على المناخ الصحفي، وقبل أن أغادر العمارة رقم 9 بشارع عماد الدين، كان اتصال على سعيد "أنت فين يا حسين.. كمل الشارع لغاية باب اللوق مستنيك في 21 عبد المجيد الرمالي الدور الثامن".
بدأ زعيم الديسك المركزي يسرد لي طموح تجربة "البديل" التي تنتظر ترخيص المجلس الأعلى للصحافة، ويعدد فرص العمل مع الفارس النبيل الراحل الدكتور محمد السيد سعيد، واعدا إياي بحيازة عقد عمل وضمان التأمين الاجتماعي معه بعد ثلاثة أشهر فقط من الإصدار الورقي، ليثنني عن فكرة السفر إلى الخارج، وقد كان ما وعد به صاحبها.
كنت تتفاجأ بنكهة اليساريين والشيوعيين النبلاء في قفشات على سعيد حينما يعلق على طلب زميل سجادة الصلاة فيردد "أمومنون بيننا!!"، فيخرجنا من مناخ الصراع داخل التجارب الناشئة إلى حلبة المنافسة على الدعابة الأعلى، ثم تكتشف في رئيس التحرير الدكتور محمد السيد سعيد أنه المعاتب لخادم زاوية للصلاة تجاور مقر الجريدة "هو أنا مش صححت لكم اتجاه القبلة من فترة.. عملتم فيها ايه تاني".
داخل هذه التجربة التي امتدت حتى 9 أبريل 2009 حينما توقفت بقرار ملاكها، لكن سيرة استمرارها حتى اللحظة لا تخلو من حيثيات أحكام قضائية تخصني تسند إلي دخلا وهميا منها، كان الكاتب الصحفي على سعيد سندا قويا لي و كل الزملاء الذين سعوا لإنجاح "جورنال" جديد له نكهته اليسارية المميزة، وإن كانت فترة استمرار هذا الأستاذ أو غيره من معلمي أجيال تالية قصيرة، لكن ظل الاتصال الإنساني حاضرا، و سمو الزمالة و الأخوة و الصداقة أعلى قيمة من ساعات خدمة هذه الدواوين دون استثناء، يحضر بديوانه "لم يعد يحلم بالثورات" متألقا لأكتشف جانبا جديدا في شخصية متجددة خارج النطاق، وتحضر انكساراته معي في دوامة حياة اجتماعية تفقدنا مناعة فيتهددنا الموت دوما حتى يكتب الله مجئ الأجل دون أسباب.
من نعم الله علينا أن يرزقنا من بين عباده من يقدرون تفاصيلنا البسيطة، وهم يدركون أن الشيطان لدى غير أهل الفضل يكمن في التفاصيل و الملهيات، وقد كان الكاتب الصحفي علي سعيد من هؤلاء الذين لا يورثونك نصيحة ولو لم ينطقون بها، ألا تجعل الخير يتوقف عندك، فبات من أهل الفضل ولو نال لقب "الراحل" فنحن موتى لم يحضر أجلنا بعد.
أسأل الله أن ينعم عليك يا أستاذ علي بالرحمة والمغفرة والجنة ويجعل كل حرف و سمة تعلمناها منك في ميزان حسناتك، ولتكن أخلاقك العالية فينا من بعدك إلى ميعاد، ولله الأمر من قبل ومن بعد وإنا لله وإنا إليه راجعون.