ملحمة قوانين الاستثمار عبر العصور: كيف تتغير قواعد اللعبة؟

في عالم الاستثمار، كل عصر يولّد قوانينه الخاصة.. فما كان قاعدة ذهبية في زمن ندرة المعلومات قد يتغير في زمن وفرتها.. هذا التطور في الفكر الاستثماري صاغه عمالقة الاقتصاد والمال: من فيليب فيشر، رائد البحث النوعي في عصر ما قبل الإنترنت، وصولًا إلى ابنه كين فيشر، الذي استغل وفرة المعلومات لصياغة استراتيجيات عالمية.
هذه القوانين ليست مجرد نظريات جامدة، بل هي بوصلة عملية توجه المستثمرين لمواكبة الأسواق المتغيرة وحماية ثرواتهم وتنميتها.
فيليب فيشر: البحث النوعي في عصر ندرة المعلومات
في خمسينيات القرن الماضي، حيث كانت المعلومات المالية شحيحة، طرح فيليب فيشر فلسفته الشهيرة "Scuttlebutt" في كتابه الكلاسيكي "Common Stocks and Uncommon Profits" (1958).
جوهر الفلسفة أن الأرقام وحدها لا تكفي؛ بل يجب على المستثمر أن يخرج إلى الميدان ليتحدث مع الموردين، العملاء، الموظفين، وحتى المنافسين ليكشف عن حقيقة الشركة. على سبيل المثال، من تبنّى هذا النهج في التسعينيات ودقق في موردي وزبائن آبل، كان بوسعه أن يدرك مبكرًا أن الابتكار عاد ليكون قلب استراتيجيتها.
محليًا، يمكن لمستثمر أن يطبّق هذه الفلسفة من خلال الحديث مع عملاء الاتصالات السعودية (STC) لفهم جودة الخدمة وولاء العملاء، أو مع موردي سابك لقياس قوة سلسلة الإمداد.
كما أكد فيشر على التركيز لا التشتت. امتلاك محفظة مركزة من 10 إلى 12 شركة ممتازة قد يحقق ثروة تفوق بكثير محفظة واسعة مليئة بالشركات المتواضعة.
هذا المبدأ ألهم وارن بافيت، الذي بنى استثماراته الكبرى في كوكاكولا وأمريكان إكسبريس.
في السياق المحلي، ينطبق هذا على التركيز في شركات رائدة مثل أرامكو أو البنك الأهلي السعودي بدلًا من تشتيت الأموال في شركات صغيرة عالية المخاطر.
كين فيشر: الاقتصاد السلوكي والتوزيع العالمي في عصر الوفرة
مع الثمانينيات وصعود عصر وفرة المعلومات، قدّم كين فيشر أسلوبًا مختلفًا يجمع بين التحليل الكمي وفهم نفسية السوق.. في كتابه "The Only Three Questions That Count"، ركز على أهمية الاقتصاد السلوكي محذرًا المستثمرين من الانسياق وراء عقلية القطيع.. الفرص الحقيقية غالبًا تكمن فيما يغفله الآخرون.. إضافةً إلى ذلك، روّج كين لمفهوم التوزيع العالمي.
لا ينبغي للمستثمر أن يحصر أمواله في سوق واحدة؛ بل عليه البحث عن القيمة أينما وُجدت. شركته "Fisher Investments" كانت توزّع محافظ عملائها في آسيا وأوروبا حين كانت الأسواق الأمريكية مرتفعة التقييم.
محليًا، نرى هذا النهج في استراتيجية صندوق الاستثمارات العامة السعودي (PIF)، الذي يوازن بين الاستثمارات العالمية (مثل تسلا وأوبر) والمشاريع المحلية العملاقة (مثل نيوم).
القوانين والمقاييس المالية الأساسية
لا تكتمل فلسفة الاستثمار دون أدوات القياس، أهمها التدفق النقدي الحر (Free Cash Flow - FCF)، فهو الملك الحقيقي للتدفقات المالية، ويعكس قدرة الشركة على تمويل نموها وتوزيع أرباحها.
مثلًا، التدفق النقدي الضخم في أرامكو هو ما يدعم توزيعاتها السخية واستثماراتها في الطاقة المتجددة.. كما أن فهم العلاقة بين العائد على رأس المال المستثمر (ROIC) وتكلفة رأس المال (WACC) أمر حيوي؛ فالقاعدة الذهبية هي أن يتجاوز ROIC تكلفة التمويل.. مثلًا، حققت مايكروسوفت عائدًا يفوق 20% مقابل تكلفة تقارب 8%، ما يثبت كفاءتها العالية.
محليًا، البنوك السعودية مثل البنك الأهلي السعودي تحقق هذه المعادلة بفضل ودائع منخفضة التكلفة.
وأخيرًا، لا يمكن تجاهل أهمية إدارة المخاطر، حيث يجب أن يتناسب حجم الاستثمار مع مستوى القناعة وتذبذب السهم، لا مع العاطفة.. حتى في الاستثمارات الموثوقة، من الحكمة الالتزام بنسب محددة لحماية رأس المال من المخاطر غير المحسوبة.
الخلاصة: القانون الأسمى هو التكيف مع الزمن
لقد أعطانا فيليب فيشر فلسفة البحث النوعي والاحتفاظ طويل الأمد، بينما قدّم كين فيشر رؤية سلوكية وعالمية تناسب عصر وفرة المعلومات.. هذا يثبت أن قوانين الاستثمار ليست ثابتة، بل تتطور مع الزمن.