التعدين كركيزة ثالثة للاقتصاد السعودي.. نحو تحويل الكنوز إلى قوة صناعية

يشهد الاقتصاد السعودي تحولًا تاريخيًا غير مسبوق في مسار تنويع مصادر الدخل الوطني، تقوده رؤية المملكة 2030 التي وضعت هدفًا واضحًا يتمثل في بناء اقتصاد مستدام لا يعتمد على النفط وحده.
وفي قلب هذا التحول، يبرز قطاع التعدين كركيزة ثالثة للاقتصاد الوطني، إلى جانب الطاقة والصناعات التحويلية، بما يحمله من إمكانات هائلة قادرة على إعادة رسم ملامح التنمية الصناعية في المملكة لعقود مقبلة. فقد ارتفعت تقديرات قيمة الموارد المعدنية غير المستغلة إلى نحو 2.5 تريليون دولار، بعد أن كانت 1.3 تريليون فقط قبل سنوات قليلة، وهي قفزة جيولوجية وتقنية تعكس حجم الثروات الكامنة في أعماق الجغرافيا السعودية، وتؤكد جاذبية الإقليم الدرعي العربي كمنطقة تعدينية عالمية.
الثروة الجيولوجية: التركيز على معادن المستقبل الاستراتيجية
تتميز المملكة بثراء جيولوجي فريد يجعلها من أغنى دول العالم بـالمعادن الاستراتيجية التي تُعرف اليوم باسم "معادن المستقبل".
هذه المعادن تشكل العمود الفقري لصناعات الطاقة النظيفة والتقنيات الرقمية والبطاريات المتقدمة.. فالنحاس والزنك يشكلان أساس التحول إلى الطاقة المتجددة، بينما تعد المعادن الأرضية النادرة عنصرًا حاسمًا في إنتاج أشباه الموصلات والمحركات الكهربائية، في حين يُعد البوكسايت الأساس لصناعة الألمنيوم.
هذا التنوع المعدني لا يمثل مجرد ثروة طبيعية، بل فرصة استراتيجية لبناء قاعدة صناعية وطنية تنافس على مستوى العالم في مجال التقنيات المتقدمة.
توطين سلاسل القيمة: من الاستخراج إلى الصناعات التحويلية
لا تقتصر رؤية المملكة على استخراج المعادن وتصديرها كمواد خام، بل تتجاوز ذلك إلى بناء منظومة متكاملة من الصناعات التحويلية التي تضيف قيمة اقتصادية حقيقية.. خطة توطين سلاسل القيمة المضافة تتضمن مسارين رئيسيين:
1- توطين الصناعات الثقيلة كثيفة رأس المال، تحويل البوكسايت إلى ألومينا ثم إلى ألمنيوم مصهور يدخل في صناعات متقدمة مثل الطيران والسيارات، بالإضافة إلى تطوير مجمعات متكاملة لمعالجة الفوسفات وتحويله إلى أسمدة ومنتجات متخصصة تدعم الأمن الغذائي العالمي.
2- توطين الصناعات المعرفية كثيفة التقنية، توطين إنتاج المعادن النادرة يفتح الباب أمام تصنيع البطاريات ومحركات السيارات الكهربائية داخل المملكة، بما يعزز حضورها في الاقتصاد الصناعي العالمي الجديد.
الشراكات العالمية والبيئة التنظيمية الداعمة
لتحقيق هذا الطموح، تعمل المملكة على بناء شراكات عالمية استراتيجية تضمن نقل المعرفة وتوطين التقنية.. وقد شهدت السنوات الأخيرة توقيع اتفاقيات ضخمة مع شركات عالمية لتطوير سلاسل إمداد المعادن الأرضية النادرة.
كما يجري توظيف التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي والاستشعار عن بُعد لرفع كفاءة عمليات المسح الجيولوجي وتقليل المخاطر البيئية المصاحبة للتعدين. ويترافق ذلك مع منظومة تشريعية حديثة مثل قانون الاستثمار التعديني الجديد، الذي يسهل منح الرخص ويمنح حوافز للمستثمرين الدوليين، ويمثل أداة ضمان قوية لاستقرار القطاع.
البعد التنموي والتحديات المستقبلية
يحمل قطاع التعدين بعدًا تنمويًا مهمًا، حيث تتركز معظم المشروعات في مناطق نائية من المملكة، ما يجعله أداة فاعلة لتحفيز التنمية الإقليمية وتوفير فرص عمل جديدة وتطوير البنية التحتية.
ومع ذلك، تواجه المملكة تحديات تتطلب تخطيطًا دقيقًا، أبرزها إدارة الأثر البيئي وضمان الالتزام بمعايير الاستدامة، والحاجة إلى ضخ استثمارات ضخمة في عمليات الاستكشاف تقدر بنحو 7.4 مليارات دولار حتى عام 2035. وللتغلب على تحدي رأس المال، تعتمد السياسات الحكومية على تنوع الشركاء الاستثماريين وتوفير الضمانات القانونية.
وختاما، وضعت المملكة لنفسها هدفًا طموحًا يتمثل في رفع مساهمة قطاع التعدين في الناتج المحلي الإجمالي إلى أكثر من 75 مليار ريال بحلول عام 2035. إن الرؤية السعودية للمستقبل لا تتعلق باستخراج ما تحت الأرض فقط، بل بتحويل تلك الكنوز إلى محركات للتنمية المستدامة وصناعات عصرية.. فكما كانت الطاقة النفطية أساس النهضة الأولى، فإن المعادن ستكون ركيزة النهضة الصناعية الثانية في تاريخ المملكة.