بوابة بالعربي الإخبارية

ما بعد النفط والأسواق العالمية: السعودية تؤسس لسيادتها المالية

الخميس 16 أكتوبر 2025 08:21 صـ 23 ربيع آخر 1447 هـ
الخبير الاقتصادي سامر شقير
الخبير الاقتصادي سامر شقير

في خضم دوامة الأخبار اليومية عن أرقام التضخم وقرارات البنوك المركزية، تتكشف قصة أعمق وأكثر أهمية؛ قصة لا تدور حول أرقام الأمس، بل حول بنية المستقبل. إنها قصة "منحنى العائد" (Yield Curve)، المؤشر الذي تحول من مصطلح فني حبيس أروقة وول ستريت إلى البوصلة الأدق لقراءة نوايا الاقتصاد العالمي.

لكن القصة الحقيقية اليوم لا تُكتب في نيويورك، بل تُصاغ فصولها في الرياض، حيث لا يتم التفاعل مع المستقبل فحسب، بل يتم بناؤه بوعي وتصميم.

منحنى العائد: ضمير السوق الذي لا يكذب

للقارئ غير المتخصص، منحنى العائد هو ببساطة "سعر الثقة بالمستقبل".. عندما يتخذ شكله الطبيعي المتصاعد، فذلك يعني أن السوق متفائل ومستعد لتمويل المشاريع طويلة الأجل بثقة.

أما عندما ينقلب، فيصبح العائد على الديون قصيرة الأجل أعلى من طويلة الأجل، ويتحول إلى ما يشبه الإنذار المبكر الذي يسبق العواصف، فهو يعكس خوفاً من الحاضر ورغبة في الهروب إلى أمان المستقبل البعيد.

وهذا الانقلاب، الذي هيمن على الأسواق العالمية خلال الفترة الماضية، لم يكن مجرد خبر عابر، بل كان إنذاراً لكل الاقتصادات المرتبطة بالتمويل العالمي. وهنا تحديداً، في قلب هذا الاضطراب، تتجلى عبقرية الرؤية السعودية.

السعودية: من "متلقي" للسياسات إلى "مهندس" للأسواق

لعقود، كان الاقتصاد المحلي يتفاعل مع السياسات النقدية العالمية. أما اليوم، فالاستراتيجية مختلفة جذرياً وتقوم على "هندسة الزمن المالي" بدلاً من مجرد الاستجابة له.

وتتجلى هذه الهندسة في ثلاث ركائز أساسية:

أولاً: بناء "مسطرة" محلية لقياس الزمن.. إن تأسيس منحنى عائد سيادي ناضج وموثوق بالريال السعودي ليس مجرد إجراءً فنيًا، بل هو إعلان استقلال مالي تدريجي. فوجوده يعني أن المشاريع العملاقة لرؤية 2030 يمكنها تسعير تكلفة تمويلها واقتراضها طويل الأجل بعملتها المحلية، بمنأى عن تقلبات الأسواق الخارجية، مما يمنح المخططين والمستثمرين يقيناً أكبر.

ثانياً: الصندوق السيادي كـ "مثبّت إنشائي" للاقتصاد.. في اللحظات التي يصرخ فيها منحنى العائد العالمي "خوف"، يعمل صندوق الاستثمارات العامة كقوة موازنة تدعم هيكل الاقتصاد.

استثماراته المباشرة وطويلة الأجل في الأسهم والمشاريع الحقيقية تتجاوز حالة الذعر قصيرة الأمد التي تهيمن على أسواق الدين، وتوفر الثقة ورأس المال اللازمين للاستمرار في البناء حتى عندما يتردد الآخرون.

ثالثاً: تحويل الدين العام إلى "أداة بناء".. لم تعد إصدارات الدين العام مجرد وسيلة لسد عجز، بل أصبحت أدوات هندسية دقيقة. فكل إصدار لسندات أو صكوك بآجال مختلفة (سنتان، 5، 10، وحتى 30 سنة) هو بمثابة نقطة جديدة تُرسم على هذا المنحنى، مما يساهم في بناء خريطة زمنية مالية واضحة ومكتملة للمستقبل.

قصة سيادة وليست مجرد أرقام

هذه ليست قصة عن الأرقام، بل عن السيادة المالية. فالقدرة على هندسة هيكلك المالي الخاص تعني القدرة على تمويل رؤيتك بشروطك الخاصة، وفي التوقيت الذي تختاره.
بالنسبة للمواطن والشركة السعودية، يترجم هذا إلى بيئة تمويل أكثر استقراراً، وقروض عقارية وتجارية أقل عرضة للصدمات الخارجية، واقتصاد أكثر صلابة وقدرة على تحقيق طموحاته الكبرى. في عالم يبحث عن اليقين، لا تنتظر السعودية المستقبل، بل تهندسه.