بوابة بالعربي الإخبارية

الدرعية تتنفس في الحجر: قراءة في ملحمة إبراهيم المحارب النحتية.. ”جدارية” تزن ذاكرة وطن

الأحد 16 نوفمبر 2025 12:22 مـ 25 جمادى أول 1447 هـ
الفنان التشكيلي إبراهيم المحارب
الفنان التشكيلي إبراهيم المحارب

عندما تقف الصخرة لتصبح صفحة من التاريخ، فإننا أمام عمل فني يتجاوز مفهوم الجماليات ليلامس الوجدان. هذه هي "جدارية الدرعية"، تحفة الفنان والخطاط التشكيلي إبراهيم المحارب، التي لم يكتفِ فيها بالنحت على الحجر، بل نحت الذاكرة ذاتها. الجدارية ليست مجرد سجل بصري، بل هي أضخم عمل نحتي معاصر في شبه الجزيرة العربية، تستقي روحها من أعماق وادي حنيفة لتتحدث بصوت الطين القديم والحرف الأصيل.

الحجم والخلود: شهادة فنية لا تزول

أراد المحارب أن يضمن لرسالته الفنية الخلود، فجاءت الجدارية بأبعاد ضخمة تُنافس شموخ الأبنية التي ترويها: 6 أمتار ارتفاعاً و20 متراً عرضاً، بسماكة 20 سم. لكن العبقرية الحقيقية تكمن في المادة؛ فقد تحدى الفنان الحداثة واعتمد على الحجر الطبيعي 100%، رافضاً الصب الصناعي أو الإسمنت. هذا الإصرار جعل من الجدارية عملاً لا يُشبه إلا معالم الطبيعة الثابتة، ملهماً مقولة أن المحارب "نحت في الصخر بأظافره" في إشارة للمجهود الروحي واليدوي الهائل.

فن العمق: 13 طبقة تحيي المشهد

إن الجدارية هي دليل على أن الفن الحقيقي يُنجز باليد والصبر. فلقد نُحتت بالكامل يدوياً، لكن ما جعلها تنبض بالحياة هو تقنية العمق الفريدة. استخدم المحارب 13 مستوى مختلفاً من العمق والإزاحة في التكوين النحتي. هذا التدرج البصري لم يكن اعتباطياً، بل كان ضرورياً لمنح العناصر أبعاداً شبه ثلاثية، تسمح للزائر بأن يشعر أنه لا يرى سطحاً حجرياً، بل يغوص في طبقات الزمن والتاريخ.
الذاكرة الثلاثية الأبعاد:
في تكوين بصري متفرد، دمج المحارب عناصر الهوية الثلاثة التي تمثل جوهر الدرعية:
* بصمة العمران: تظهر مباني الدرعية التاريخية، أبراجها، مداخلها، ونوافذها الطينية بتفاصيل دقيقة. كل مبنى يقف بعمق نحتي مختلف، وكأنه يمثل حقبة زمنية منفصلة تعيش على الجدار ذاته.
* روح الزخرفة: تمتد الزخارف النجدية، بأشكالها الهندسية المتمثلة في المثلثات والنجوم الثمانية، على امتداد العمل، لتصبح بمثابة "وشم" ثقافي يُزين الجسد الحجري للعمل.
* لغة الحروف: يحيط الخط العربي الأصيل والمتقن بالأبنية، ليصبح إطاراً وحارساً لغوياً للعمارة. هنا، يتوقف الخط عن كونه مجرد حروف ليصبح كياناً معمارياً يحتضن ذاكرة المكان.
أجيال أمام وثيقة حية:
الوقوف أمام هذه التحفة ليس مشهداً عابراً، بل هو رحلة تستدعي حواس الزائر. يستطيع المرء أن يرى حكاية الماضي من خلال تضاريس الحجر، وأن يشعر بالانتماء الذي سعى المحارب لغرسه حين أنجز هذا العمل. الجدارية هي أكثر من نصب فني، إنها "وثيقة حجرية" خالدة، رسالة فنية للأجيال المقبلة، تلخص رؤية المحارب التي تقول: "هذا وطني... وهكذا نحافظ عليه."