ملحمة ”جدارية الدرعية”: تفكيك المحارب لمنظومة النحت.. حوار بين أصالة الحجر وذكاء التكوين المعماري
تمثل "جدارية الدرعية" للفنان والخطاط التشكيلي إبراهيم المحارب أكثر من مجرد عمل فني ضخم؛ إنها بيان معماري ونقلة نوعية في المشهد النحتي الحديث للمملكة. يشكل هذا العمل، بحضوره المادي الهائل، نقطة تلاقٍ مفاهيمية بين صلابة الحجر وذاكرة المكان، مقدماً تجربة بصرية تتعمق في أصالة العمارة النجدية ورمزية الخط العربي.

المادية والتحدي التقني:
يُعد الاختيار المادي للمحارب نقطة الانطلاق في هذا المشروع. ففي زمن يهيمن عليه الصب الصناعي، جاء قراره بنحت الجدارية بالكامل على الحجر الطبيعي 100% ليكون بمثابة إعلان استرداد لأصالة المادة. هذا الالتزام بالـ"مادية" جعل من الجدارية كياناً خالداً يُماثل الجبال في تكوينه، على الرغم من أبعادها المهولة: 6 أمتار ارتفاعاً، في 20 متراً عرضاً، وسماكة 20 سم.
العبقرية التقنية تكمن في طريقة التنفيذ اليدوي الذي يذكر بحرفية البنائين الأوائل. لكن الأثر البصري الأقوى هو استخدام الفنان 13 مستوى مختلفاً من العمق والإزاحة في النحت.
هذه المستويات المتفاوتة لا تخدم البعد الجمالي فحسب، بل تُفكك السطح المستوي للحجر، مُنتجة "تأثيراً طوبوغرافياً" شبه ثلاثي الأبعاد يُحيي عناصر التكوين، ويُحقق حواراً بين الضوء والظل يضفي ديناميكية على الكتلة الحجرية.

البنية البصرية: أيقونات الهوية
اعتمد المحارب على ثلاثة أيقونات أساسية لنسج لغة الجدارية البصرية:
1. المرجعية المعمارية: تظهر مباني الدرعية التاريخية، بتفاصيلها الدقيقة من الأبراج والمداخل والنوافذ الطينية، كعناصر أساسية في التكوين. تم نحت كل مبنى بعمق مختلف ليعمل كـ"وحدة سردية" مستقلة داخل المشهد العام، مؤكداً على قوة الماضي.
2. الزخرفة كبنية تحتية: تمتد الزخارف النجدية، بأشكالها الهندسية المتمثلة في المثلثات والنجوم الثمانية، كـ"بنية تحتية" بصرية، تربط التكوين وتُعيد إلى الواجهة رموز الحرفة والهوية المتوارثة.
3. وظيفة الخط العربي: لا يعمل الخط العربي هنا كزينة، بل يكتسب وظيفة معمارية.
بخطوطه الأصيلة المنتشرة حول الأبنية، يصبح الخط "كياناً حامياً" للعمران، وكأن اللغة هي الوعاء الذي يحفظ التاريخ، ليصبح الخط نفسه عنصراً أساسياً في المنظومة التكوينية.

التأثير المفاهيمي والرسالة الخالدة:
إن كمية الجهد اليدوي والدقة في تحويل هذا الحجم الهائل من الحجر، دفعت إلى وصف العمل بأنه "نحت في الصخر بالأظافر". هذه العبارة تلخص المجهود وتُشير إلى إيمان الفنان بأن العمل اليدوي هو الضمان الوحيد لأصالة التعبير.
تنجح "جدارية الدرعية" في أن تكون وثيقة حجرية خالدة، تعكس وعي الفنان بضرورة تقديم التراث بأسلوب يستفز الذاكرة ويفرض الاحترام.
إنها قطعة فنية، تحمل رسالة واضحة للمحارب: "هذا وطني... وهكذا نحافظ عليه"، لتصبح إرثاً للأجيال ومعلماً يُحتذى به في فن النحت الضخم.
