اقتصاديات ”المدينة النشطة”.. كيف حولت الرياض الرفاهية إلى عوائد مستدامة؟
في أدبيات الاقتصاد التقليدي، كانت "الرفاهية" تُصنف غالباً كبند إنفاقي، أو كناتج فائض للنمو الاقتصادي، تأتي بعد اكتمال البنية التحتية الصلبة. لكن الرياض اليوم، وعبر إعلان الهيئة الملكية لمدينة الرياض حصول العاصمة على شهادة "المدينة النشطة عالمياً" (Global Active City) كأول مدينة في الشرق الأوسط، تقلب هذه المعادلة رأساً على عقب، هي تقول للعالم بوضوح: الرفاهية وصحة الإنسان هما "المحرك" وليسا مجرد "نتيجة".
حصول الرياض على هذا التصنيف الدولي الرفيع، بالتزامن مع فوز مشروع "قطار الرياض" بجائزة "كوموشن العالمية" (CoMotion) للتميز في الرؤية الحضرية، يضعنا أمام مشهد متكامل يستحق القراءة المتأنية بعيداً عن لغة التهاني المعتادة، لنغوص في عمق "العائد الاقتصادي" لهذا التحول.

الاستثمار في "رأس المال البشري"
عندما نتحدث عن مدينة تساهم بنحو 47% من الناتج المحلي غير النفطي للمملكة، فإن الحفاظ على صحة سكانها وحيويتهم ليس ترفاً، بل هو إجراء اقتصادي وقائي. الدراسات العالمية تؤكد أن المدن التي توفر بيئة محفزة للنشاط البدني تنجح في خفض الفاتورة الصحية الحكومية على المدى الطويل، وترفع من معدلات إنتاجية الفرد.
لذا، فإن تصريح الرئيس التنفيذي للهيئة الملكية، المهندس إبراهيم السلطان، بأن هذا الإنجاز يعكس "تضافر الجهود المؤسسية"، يشير إلى أننا أمام استراتيجية دولة تدرك أن "الوقاية" تبدأ من التخطيط العمراني، وليس من المستشفيات فقط.

التكامل بين "الحركة" و"التنقل"
لا يمكن قراءة خبر "المدينة النشطة" بمعزل عن خبر جائزة "قطار الرياض". فالمدن النشطة لا تُبنى بالاعتماد الكلي على السيارات الخاصة. مشروع القطار، الذي تجاوز عدد ركابه التوقعات في أقل من عام، هو الشريان الذي يضخ الحياة في أوصال العاصمة. هو الذي يحول التنقل من عبء يومي إلى تجربة حضرية تشجع المشي والحركة.
هذا التكامل بين حلول النقل الذكية (التي نالت التقدير العالمي) وبين البنية التحتية الرياضية (التي منحتنا لقب المدينة النشطة)، هو ما يخلق بيئة جاذبة للاستثمارات.
جذب الاستثمار وجودة الحياة
في ظل التنافس الإقليمي الشرس لجذب المقرات الإقليمية للشركات العالمية، لم تعد الإعفاءات الضريبية أو التسهيلات الإجرائية هي العامل الوحيد الحاسم. المديرون التنفيذيون والمواهب العالمية يبحثون اليوم عن "جودة الحياة". يبحثون عن مدن صديقة للمشاة، ومساحات خضراء، وخيارات صحية.
هنا تكمن القيمة الاقتصادية لشهادة "المدينة النشطة"؛ فهي رسالة تسويقية قوية للمستثمر الأجنبي بأن الرياض بيئة مثالية للعمل والعيش معاً.

خاتمة: هندسة المستقبل
إن نمو أعمال البنية التحتية بنسبة 100% خلال السنوات الخمس الماضية، وتسارع وتيرة المشاريع الكبرى مثل "المسار الرياضي" و"حديقة الملك سلمان"، يؤكد أن الرياض لا تبني "طرقاً وجسوراً" فحسب، بل تهندس "أسلوب حياة".
لقد نجحت الرياض في تحويل مستهدفات "رؤية 2030" من خطط ورقية إلى واقع ملموس، مثبتة أن الاستثمار في "أنسنة المدن" هو الاستثمار الأكثر استدامة وعائداً في اقتصاديات المستقبل.
