”جدارية الدرعية”: إبراهيم المحارب يتحدى الزمن بملحمة من الحجر الخالص
بعرض 20 مترًا وعمق 13 مستوى نحت، الفنان العبقري ينجز أضخم عمل نحتي يدوي في شبه الجزيرة العربية
حين تتكلم الأحجار، يصمت كل شيء آخر، وحين تتحول هذه الأحجار إلى صفحات تاريخ حي، فنحن أمام إنجازٍ استثنائي يلامس حدود الأسطورة.
هذا هو بالضبط ما فعله الفنان التشكيلي والخطاط العبقري إبراهيم المحارب في "جدارية الدرعية"، العمل الفذ الذي لا يُقارن، والذي يرتقي بـ "النحت" من كونه فنًا، إلى كونه "صونًا" للهوية.

أبعاد أسطورية وروح من الصخر الخالص
نحن هنا أمام عمل فني ضخم بكل المقاييس؛ جدارية تمتد على عرض هائل يبلغ 20 مترًا، بارتفاع 6 أمتار، وسماكة 20 سم.
لكن الأرقام، على ضخامتها، تفشل في نقل الرهبة الحقيقية. السر يكمن في المادة والروح.. لقد أصر المحارب على أن يكون العمل منحوتًا بالكامل من الحجر الطبيعي 100%، رافضًا أي تدخل صناعي، ليمنح عمله خلود الجبال ذاتها.

مهمة مستحيلة.. النحت اليدوي يتحدى الزمن
هذا الخيار الصعب تطلب جهدًا لا يُصدق. فالجدارية بأكملها نُحتت يدويًا، باستخدام أدوات تقليدية، في عملية تطلبت صبرًا لا نهائيًا ودقة متناهية.
إن القول بأن المحارب "نحت في الصخر بأظافره" ليس مجرد تشبيه بلاغي، بل هو أقرب وصف لحقيقة الجهد اليدوي الجبار الذي حوّل هذا الحجم الصخري الأصم إلى عمل رمزي خالد، في مهمة تضاهي عمل فريق كامل لسنوات.
عبقرية فنية.. "تشريح" الحجر بـ 13 مستوى
فنياً، لم يكتفِ المحارب بالنقش السطحي. لقد "شرّح" الحجر، وغاص في طبقاته، مستخدمًا 13 مستوى مختلفًا من العمق والإزاحة. هذه التقنية المعقدة هي التي تمنح الجدارية أبعادًا شبه ثلاثية، تخلق تكوينًا بصريًا متدرجًا ينقل عين الناظر من السطح الخارجي إلى قلب التاريخ في الداخل، ليتحول الجدار من حاجزٍ إلى بوابة.

من بوابة النحت إلى قلب الدرعية
وما أن تعبر هذه البوابة البصرية، حتى تجد نفسك في قلب الدرعية القديمة.
فمن قلب الحجر، تبرز المباني التاريخية بتفاصيلها المتقنة: الأبراج، المداخل، المآذن ذات القمم المشطوفة، والنوافذ الطينية. كل مبنى نُحت بدرجة عمق مختلفة ليعكس حيوية الماضي وقوته. وتتدفق الزخارف النجدية كالوشم الأصيل على جسد الحجر، بنقوشها الهندسية ونجومها الثمانية ورموزها المتوارثة.
وتأتي الحروف العربية الأصيلة لتطوق المشهد وتحتضنه، في رمزية عميقة للغة التي تحفظ العمران وتحرس الذاكرة.
لهذا، فإن تجربة الوقوف أمام هذا العمل تتجاوز المشاهدة. إنها غوصٌ في عبق التاريخ.. أنت لا ترى مجرد حجرٍ منقوش، بل تكاد تسمع صوت البنّائين وتشم رائحة الطين وتلمس بأصابعك ذاكرة المكان الحية.

وثيقة خالدة.. إرث للأجيال وبصمة وطن
إن "جدارية الدرعية" ليست مجرد نصب فني سيقف الجيل الحالي لالتقاط صور السيلفي أمامه بفخر، بل هي وثيقة حجرية وإرثٌ للأجيال القادمة.
إنها مزار لكل باحث عن الإلهام، ودرس في الانتماء والهوية.. لقد نجح إبراهيم المحارب في مهمته المستحيلة: لم ينحت جدارًا، بل نحت ذاكرة أمة في قلب الصخر، ليقدم للعالم برهانًا خالدًا على أن الفن الحقيقي هو أسمى أشكال الحفاظ على الوطن.
