دينامو السعودية الرقمي: فرص الفينتك

في السنوات الأخيرة، شهدت المملكة العربية السعودية تحولاً مذهلاً في مسيرتها نحو الرقمنة.
لم يعد الأمر مجرد تحديث تقني، بل أصبح جزءاً لا يتجزأ من رؤيتنا لمستقبل اقتصادي مزدهر ومكانة عالمية مرموقة.
وفي خضم هذا التحول، تبرز التقنية المالية ("الفينتك") كقوة دافعة حقيقية، تفتح آفاقاً استثمارية واعدة وعوائد مجزية في بيئة محفزة للنمو. إنها ليست مجرد تطوير للخدمات المالية التقليدية، بل هي ثورة تعيد تشكيل جوهر هذه الخدمات، وتخلق قيمة اقتصادية غير مسبوقة تتناغم تماماً مع طموحات رؤية 2030.
بيئة تحتضن الابتكار: قصة نمو متسارع
يعود الفضل الأكبر في هذا الزخم الذي يشهده قطاع "الفينتك" في المملكة إلى البيئة التنظيمية الرائدة والداعمة.
يقود هذه المسيرة البنك المركزي السعودي ("ساما") وهيئة السوق المالية، اللذان أطلقا مبادرات جريئة مثل "البيئة التجريبية التشريعية" ("Regulatory Sandbox").
هذه المبادرة فتحت الأبواب على مصراعيها أمام الابتكار، وسمحت لعشرات الشركات الناشئة باختبار حلولها المالية الجديدة ضمن إطار آمن ومحكم.
هذه المرونة التنظيمية أثمرت عن تطورات سريعة وملموسة في مجالات حيوية.. على سبيل المثال، تجاوزت المدفوعات الرقمية نسبة 79% من إجمالي المدفوعات غير النقدية في قطاع التجزئة بنهاية عام 2024، وهو إنجاز يفوق الهدف المحدد في رؤية 2030 قبل الموعد المحدد له.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد شهد عدد شركات "الفينتك" المرخصة والمدعومة نمواً هائلاً، حيث وصل عدد الشركات الناشئة في القطاع إلى أكثر من 224 شركة بنهاية الربع الثاني من عام 2024، مما يؤكد هذا النمو المطرد وتجاوز المستهدفات الأولية للقطاع.
وفي هذا المشهد المتسارع، تبرز قصص نجاح ملهمة لشركات سعودية مثل "تمارا" و"STC Pay". تمارا، التي انطلقت في عام 2020، أصبحت اسماً لامعاً في مجال حلول "اشترِ الآن وادفع لاحقًا" ("BNPL")، ونجحت في جذب استثمارات تجاوزت 400 مليون دولار، لتصبح واحدة من أسرع الشركات نمواً في المنطقة.
أما "STC Pay"، الذراع المالية لمجموعة الاتصالات السعودية، فقد بدأت كمحفظة رقمية مرخصة من البنك المركزي، ثم خطت خطوة تاريخية بتحولها إلى "STC Bank"، أول بنك رقمي في المملكة. تجاوز عدد مستخدمي "STC Pay" ثمانية ملايين مستخدم، مما يجعلها من أكبر محافظ الدفع الإلكتروني في الشرق الأوسط. هاتان الشركتان تجسدان بوضوح الإمكانات الاستثمارية والابتكارية الهائلة في السوق السعودي، مدعومة ببيئة حاضنة للابتكار وطلب متزايد على الحلول الرقمية المبتكرة.
لماذا الآن هو الوقت الأمثل للاستثمار في الفينتك السعودي؟
إن الاستثمار في هذا القطاع الواعد ليس مجرد مواكبة لتوجه عالمي نحو رقمنة الخدمات المالية، بل هو قرار استراتيجي يصب في بناء بنية تحتية مالية أكثر كفاءة وشمولاً، قادرة على خدمة قطاعات أوسع من اقتصادنا الوطني.. يغذّي هذا التوجه الطلب المحلي المتزايد، فمع تزايد اعتماد الأفراد والشركات على الحلول الرقمية في معاملاتهم اليومية، تتنامى الحاجة المستمرة لابتكارات في مجال "الفينتك".
هذه الابتكارات لا تسهل العمليات فحسب، بل تخفض التكاليف وتزيد الشفافية، مما يخلق سوقاً متعطشاً للجديد والمبتكر.
إضافة إلى ذلك، يلعب الدعم الحكومي اللامحدود دوراً محورياً، فقيادتنا الرشيدة، ممثلة في "ساما" وهيئة السوق المالية وصندوق الاستثمارات العامة، تعمل بلا كلل لتوفير بيئة تشريعية وداعمة محفزة.
وقد أعلنت المملكة عن هدف طموح يتمثل في الوصول إلى 525 شركة "فينتك" بحلول عام 2030، وهذا يؤكد التزامها الراسخ بتنمية هذا القطاع كرافعة اقتصادية أساسية.
يتعزز المشهد أيضاً بفضل جاذبية رأس المال البشري والكفاءات، حيث تركز المملكة بشكل كبير على استقطاب وتطوير المواهب في مجال "الفينتك".
تقرير "Fintech Saudi 2023" أشار إلى أن عدد الوظائف المباشرة في شركات التقنية المالية بلغ 6,726 وظيفة بنهاية عام 2023، وهو ما تجاوز المستهدفات الموضوعة، مما يدل على وجود قاعدة قوية من المواهب الشابة والجاهزة للعمل والابتكار.
وأخيراً، يُشكل حجم الاستثمارات الجريئة المتزايد دليلاً قاطعاً على ثقة المستثمرين في هذا القطاع. لقد شهد القطاع تدفقات استثمارية ضخمة تؤكد هذه الثقة.
فبينما تجاوز حجم الاستثمار الجريء في المملكة ككل 750 مليون دولار في عام 2024، يستحوذ قطاع "الفينتك" على حصة كبيرة من هذه الاستثمارات، حيث شهد استثمارات تراكمية بلغت حوالي 1.84 مليار دولار حتى نهاية عام 2023. هذه الأرقام تعكس جاذبيته لرؤوس الأموال الكبرى، وتؤكد أنه سوق لا يمكن تجاهله.
تحديات محتملة: نظرة واقعية
في سياق هذا النمو الديناميكي، من المهم الإشارة إلى أن أي قطاع واعد لا يخلو من التحديات. يواجه الفينتك السعودي بعض المعوقات التي تستدعي الانتباه، مثل الحاجة المستمرة لتطوير الأطر التنظيمية لمواكبة الابتكارات السريعة، وتأمين الكفاءات المتخصصة في مجالات التقنيات المالية المتقدمة، إضافة إلى التنافسية المتزايدة من الشركات العالمية الكبرى.
إلا أن هذه التحديات تُعد حافزاً إضافياً للابتكار والتطوير المستمر، وتؤكد على ضرورة العمل المشترك بين القطاعين العام والخاص لضمان استمرارية زخم النمو.
فرص استثمارية متنوعة: كيف تدخل هذا العالم الواعد؟
تتنوع فرص الاستثمار في قطاع "الفينتك" السعودي وتتعدد السبل لدخول هذا العالم الواعد، يمكن للمستثمرين الأفراد والشركات على حد سواء استهداف الشركات التي تقدم حلولاً مبتكرة في مجالات حيوية.
على سبيل المثال، هناك فرص واعدة في المدفوعات الرقمية، والتي تشمل المحافظ الإلكترونية الحديثة و"بوابات الدفع" المتطورة التي تسهل حياتنا اليومية.
كما يبرز التمويل البديل كخيار جذاب، بما في ذلك التمويل الجماعي والإقراض من نظير إلى نظير، الذي يفتح أبواباً جديدة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة.
ولا ننسى حلول إدارة الثروات الرقمية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي ("الروبو-أدفايزورز")، والتي تقدم استشارات مالية مخصصة بطريقة ذكية ومبتكرة.
أما بالنسبة للكيانات الكبرى والمستثمرين المؤسسيين، فالخيارات تتسع لتشمل الدخول في شراكات استراتيجية مع شركات "الفينتك" الواعدة، أو حتى الاستحواذ عليها للاستفادة من تقنياتها المتطورة وقاعدة عملائها المتنامية.
خيار آخر يتمثل في الانضمام إلى صناديق الاستثمار المتخصصة، سواء كانت صناديق الاستثمار الجريء التي تدعم الشركات الناشئة الواعدة، أو صناديق الأسهم الخاصة التي تركز على قطاع "الفينتك".
هذه الصناديق توفر تنويعاً وتقليلاً للمخاطر، وتتيح الاستفادة من خبرة مديري الصناديق في تحديد أفضل الفرص.