الانتخابات العراقية.. نسخة مكررة أم رؤية جديدة؟
بعد حملات دعائية وسياسية كبيرة باهظة التكلفة تجاوزت مليارات الدولارات، أُجريت الانتخابات البرلمانية العراقية في دورتها السادسة منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003م، في أجواء مختلفة نسبيًّا هذه المرة عما جرت عليه في دوراتها السابقة خلال العشرين سنة الماضية على المستويات الداخليّة والإقليمية والدوليّة؛ حيث دارت مراحلها وذهنية المواطن العراقي لا تزال محملة بنتائج وعواقب سياق التغييرات الإقليمية جراء حروب إسرائيل العدوانية على غزة ولبنان وإيران واليمن بعد عملية طوفان الأقصى 7 أكتوبر 2023م، وسقوط نظام بشار الأسد 8 ديسمبر 2024م، إضافة إلى عدم تحجيم تفاقم أزمات المواطن العراقي نفسه بسبب استمرارية تدني الخدمات وعدم توفير كامل احتياجاته الأساسية والضرورية، وكأنه لا أمل محتملا أمامه في الأفق.
ورغم لغة الإحباط التي أبدتها قاعدة شعبية ليست بالقليلة داخل المكونات العراقية (لاسيما الشيعية والسنية) من أي نتائج ستسفر عنها هذه الانتخابات، إلا أن نسبة الإقبال على التصويت زادت هذه المرة عن الدورة السابقة بنحو 14%، أي بلغت 56% من نسبة المصوتين رغم مقاطعة التيار الصدري – صاحب القاعدة الشعبية الكبيرة - للانتخابات.
وفي رأيي، أن ارتفاع نبرات المزايدات والاتهامات المذهبية والطائفية والشخصية واتساع نطاق المال السياسي في أثناء الدعاية الانتخابية بين الكتل والائتلافات والتحالفات والأحزاب - كان لها دور في حشد الكثير من المصوتين إلى صناديق الانتخاب، وهذا مؤشر خطير جدًّا حول شكل العملية السياسية في العراق خلال الأعوام الخمسة القادمة، إذ بذلك تبتعد بالعراق عن مقاصد الهوية والشراكة المقررة سلفًا في الدستور، ويبقى مستقبل العراق على المحك.
على الجانب الآخر، هناك من تمكن من استثمار نجاحاته في السنوات الخمس السابقة وما قبلها في مجالات الإعمار والتطوير وتحسين مستوى الخدمات للمواطنين بإمكانيات محدودة، للقفز عن القدر الذي كان يتوق إليه من عدد المصوتين له في هذه الانتخابات، مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة الرئيس مسعود البارزاني الذي طالب جماهيرَه بمليون صوت، فصوّت له ما زاد عن المليون بنحو 100 ألف، ليكون أكبر الأحزاب تصويتًا له في هذه الانتخابات، ومع ذلك ربما لا يزيد عدد مقاعده في البرلمان الجديد عن 30 مقعدًا، في حين أن تحالفات وائتلافات أخرى منافسة لم تحصل إلا على نحو 250 ألف صوت وستزيد مقاعدها في البرلمان عن الـ 50 مقعدًا، مثل «ائتلاف الإعمار والتنمية» بزعامة محمد شياع السوداني، ويمكن سحب الأمر نفسه على «ائتلاف دولة القانون» بزعامة نوري المالكي؛ وهذا يعود إلى خلل في قانون الانتخابات العراقية، ولذلك تطالب بعض الكتل السياسية في العراق وعلى رأسها الكرد إلى ضرورة إعادة النظر في هذا القانون. فمن غير المعقول أن يصوّت للأحزاب الكردية في الانتخابات الحالية ما يزيد عن الـ 2 مليون ناخب ولا تتجاوز مقاعدهم البرلمانية عن 60 مقعدًا من أصل 329 مجموع المقاعد البرلمانية.
لقد تحركت القوى السياسية العراقية في سياق أن نتائج الانتخابات فرصة لتعظيم وزنها السياسي، ووسيلة لإعادة توزيع موازين القوى داخل العملية السياسية في بغداد. ولذلك يظل العراق كما هو يعاني من تعدد الولاءات المتضادة، ويبقى رهين انقساماته الطائفية والإثنية بما يقف حائلا أمام بروز أجندة وطنية عراقية تثمن واقعيًّا مفهوم «الدولة» التي تسخر كل طاقاتها لإعلاء مصالحها العليا، وتوفر حياة كريمة لمواطنيها، وتحافظ على سيادتها، وتمنع بقوة انتهاكات كل من إيران وتركيا المستمرة عليها، وتقضى على أي مظاهر إرهابية محتملة، وتتمكن من تحويل العراق إلى قيمة إضافية في المنطقة والعالم.
ولا شك أن عراقًا بغير مقررات مفهوم «الدولة» لن يساعد على وقف التقلبات التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط، بل على العكس يجعلها رخوة أمام أي تحديات قادمة؛ فيتأثر هو ويتأثر غيره.
*الكاتب أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الأزهر
