الرياض 2026.. حين يصبح ”الشرط” الحكومي ”شغفاً” عالمياً
قبل بضع سنوات، وتحديداً عندما أعلنت المملكة عن برنامج جذب المقرات الإقليمية للشركات العالمية (RHQ)، ساد انطباع حذر لدى بعض المراقبين بأن الأمر قد يكون مجرد "شرط حكومي" للوصول إلى العقود والمناقصات.
اليوم، ونحن نعيش واقع 2026، تغيرت المعادلة كلياً؛ لم تعد الشركات تأتي إلى الرياض لأنها "ملزمة" بذلك، بل لأنها أدركت -بلغة الأرقام والحوافز- أن التواجد خارج الرياض يعني ببساطة "الخروج من معادلة المنافسة" في الشرق الأوسط.

من قرار "إلزامي" إلى ميزة تنافسية
لعل ما سرّع هذا التحول الجذري هو حزمة الحوافز الضريبية غير المسبوقة، وعلى رأسها الإعفاء الضريبي لمدة 30 عاماً، التي حولت الرياض من مجرد سوق استهلاكي إلى بيئة تنافسية تفضيلية (منصة انطلاق عالمية) تضاهي كبرى العواصم الاقتصادية.
الأرقام تتحدث عن نفسها؛ فقد تجاوز عدد الشركات التي أصدرت تراخيص مقراتها الإقليمية حاجز الـ 500 شركة عالمية متجاوزة المستهدفات الأولية بفارق كبير، وهو ما يعكس انتقال الشركات من مرحلة جس النبض إلى مرحلة التمركز الاستراتيجي الدائم (التواجد التشغيلي المتكامل).

الرياض.. وتكامل "جودة الحياة"
بصفتنا تنفيذيين ومستثمرين نعيش تفاصيل اليوميات في العاصمة، نلمس أن الجاذبية لم تعد تقتصر على الحوافز المالية. الرياض تحولت بفضل مخرجات "برنامج جودة الحياة" -أحد ركائز رؤية 2030- إلى وجهة جاذبة للمواهب (Talent Magnet). التوسع الهائل في المدارس الدولية العريقة، وشبكة النقل العام المتطورة (قطار الرياض والحافلات)، والمساحات الخضراء التي بدأت تتنفس من خلالها المدينة ضمن مشروع "الرياض الخضراء"؛ كل هذه العناصر خلقت بيئة معيشية جعلت من قرار انتقال المدراء التنفيذيين وعائلاتهم إلى الرياض خياراً مفضلاً للكفاءات الغربية والآسيوية.

أثر "الدومينو" الاقتصادي
نجاح برنامج المقرات الإقليمية أحدث ما نسميه في علم الاستثمار "أثر الدومينو" (The Domino Effect). فدخول عمالقة التكنولوجيا والقطاع المالي لم يأتِ وحيداً؛ بل استجلب معه منظومة خدمات مساندة بالغة الأهمية.
اليوم نرى مكاتب المحاماة الدولية، وشركات الاستشارات الكبرى (Big 4)، وحتى سلاسل الفنادق والمطاعم الفاخرة، تتسابق لحجز مواقعها لخدمة هذا التكتل الجديد من الشركات. هذا الحراك هو التفسير العملي لنمو القطاع غير النفطي؛ نحن لا نتحدث عن سيولة تدخل وتخرج، بل عن دورة اقتصادية كاملة تخلق قيمة مضافة ووظائف نوعية داخل الاقتصاد المحلي.

الإقامة المميزة: المسرّع الحقيقي للاستقرار
لا يمكن قراءة هذا المشهد بمعزل عن الثورة التشريعية في أنظمة الإقامة. لقد شكلت منتجات "الإقامة المميزة" الجديدة -سواء لفئة الكفاءات الخاصة، أو مستثمري الأعمال، أو رواد الأعمال- نقطة التحول من مفهوم "الكفالة" التقليدي إلى مفهوم "الشراكة" و"الانتماء". هذا الاستقرار التشريعي هو ما يدفع المستثمر لضخ رؤوس أمواله في أصول طويلة الأجل، وهو ما نلمسه بوضوح في ارتفاع مبيعات العقارات للمقيمين وتأسيس الشركات الناشئة.
الخلاصة
إن الرهان الذي وضعه سمو ولي العهد -حفظه الله- بأن تكون الرياض واحدة من أكبر 10 اقتصاديات مدن في العالم، يتحول أمام أعيننا من خطة طموحة إلى واقع ملموس.
رسالتي لكل مستثمر أو شركة لا تزال تتردد في اتخاذ القرار: القطار قد غادر المحطة بالفعل، والرياض اليوم ليست مجرد عاصمة للقرار السياسي، بل هي "المقر الرئيسي" (HQ) لمستقبل الاقتصاد في المنطقة، ومن يغب عنها اليوم، سيجد صعوبة بالغة في اللحاق بالركب غداً.











