من المبادرة إلى المأسسة.. الخليج يرسم ملامح سياحة بيئية جديدة

يشهد الخليج تحولاً استراتيجياً متسارعاً نحو ترسيخ مفهوم السياحة البيئية كأحد أعمدة الاقتصاد المستقبلي، مدفوعة برؤى تنموية طموحة ومطالب بيئية متصاعدة على المستويين الإقليمي والعالمي. ومع تسارع آثار التغير المناخي وندرة الموارد، لم يعد الاستثمار في السياحة المستدامة ترفاً، بل بات ضرورة تفرضها التحديات المقبلة.
هذا التحول لا يقتصر على تحسين صورة الوجهات السياحية، بل يتجاوزها نحو إعادة صياغة علاقة القطاع بالبيئة والمجتمعات المحلية، كما يشير تقرير حديث سلط الضوء على مجموعة من المبادرات النموذجية التي تعكس هذا التوجه الجديد.
من المبادرة إلى التكامل.. هل تتحول الاستدامة إلى ممارسة مؤسسية؟
رغم تعدد المشاريع التي ترفع شعار "الاستدامة"، إلا أن التحدي الحقيقي، بحسب خبراء، يتمثل في دمج هذه المبادئ ضمن البنية المؤسسية للقطاع، وليس فقط كأدوات تسويق.
توضح د. سيمونا أزالي، أستاذة العمارة في الجامعة الكندية بدبي، أن بعض الفنادق والمنتجعات بدأت بالفعل في تبني ممارسات بيئية مثل تقليل استهلاك المياه والطاقة، أو دعم المنتجات المحلية. لكنها تحذّر من أن هذه الخطوات تظل محدودة التأثير ما لم تكن جزءاً من استراتيجية متكاملة تشمل التصميم البيئي، وإدارة النفايات، وتحقيق الأثر المجتمعي الإيجابي.
وتضيف: "الاختبار الحقيقي هو في الانتقال من فكرة الاستدامة إلى تصميم تجديدي يعزز استعادة النظام البيئي ويدعم المجتمعات".
البعد البيئي في خطط الخليج السياحية.. تقدم متفاوت وفرص واعدة
يشير ديميتريوس ديامانتيس، نائب رئيس الشؤون الأكاديمية بجامعة سيتي – قطر، إلى أن البنية التحتية السياحية في الخليج تطورت بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة، مدفوعة بالاستثمار والابتكار. غير أن الجانب البيئي لا يزال في مرحلة التطوير، ويتطلب تفكيراً مختلفاً في آليات التخطيط والإدارة.
ويؤكد ديامانتيس أن "نقاشات الاستدامة المتصاعدة في المنطقة تُعد مؤشراً إيجابياً على نضوج الرؤية، رغم أن التطبيق الفعلي لا يزال يواجه عقبات تتعلق بالتكلفة والتشريعات".
نماذج رائدة ترسم ملامح السياحة البيئية الخليجية
رغم التفاوت في سرعة التطبيق بين دول الخليج، بدأت تظهر مشاريع تشكّل تجارب ملموسة للسياحة البيئية:
كورال بلوم – السعودية
مشروع على جزيرة "شرى" بالبحر الأحمر، يعكس مفهوماً متقدماً للتنمية السياحية من خلال اعتماد البناء خارج الموقع، والطاقة المتجددة، وتصميم يحاكي الطبيعة بدلاً من تغييرها.
أور هابيتاس العلا – السعودية
في قلب واحات العلا التاريخية، تم تصميم المنتجع بطريقة تراعي الطبيعة الجيولوجية والمخاطر البيئية، باستخدام مواد مستدامة وطاقة نظيفة، ليصبح نموذجاً يُحتذى في دمج التراث بالاستدامة.
سيكس سينسيز زيغي باي – سلطنة عمان
يجمع المنتجع بين الحفاظ على البيئة ودعم المجتمعات المحلية. يعيد تدوير المياه، وينتج السماد من بقايا الطعام، ويوفر مساحة تعليمية للزوار عن الاستدامة، ضمن إطار يوازن بين الربحية والمسؤولية الاجتماعية والبيئية.
الطريق إلى السياحة المستدامة في الخليج: خطوات أولى ولكن ثابتة
مع تزايد المبادرات التي تضع البيئة في قلب الرؤية السياحية، تبرز أسئلة جوهرية حول مدى استدامة هذا التوجه على المدى الطويل. فنجاح هذه المشاريع لا يقاس فقط بالتصاميم الذكية أو المبادرات البيئية، بل بقدرتها على إحداث تغيير حقيقي في نمط السياحة السائد، وتحقيق منفعة متبادلة بين البيئة والاقتصاد والمجتمع.
وفي حين تبقى التحديات قائمة، خصوصاً على صعيد تشريعات الاستدامة، وتدريب الكوادر، وتحفيز القطاع الخاص، فإن المشاريع الحالية تؤشر إلى أن السياحة البيئية لم تعد مجرد خيار تجميلي، بل ركيزة اقتصادية جديدة تُبنى عليها طموحات التنمية الخليجية المستقبلية.