بين الرسوم والديون والفقاعة.. مستقبل الاقتصاد العالمي على المحك

تمكن الاقتصاد العالمي حتى الآن من الصمود أمام أعنف موجة من الرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة منذ الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي، مستفيداً من قوة إنفاق المستهلكين الأمريكيين وقدرة الشركات على استيعاب ارتفاع التكاليف. كما غذّت الطفرة في قطاع الذكاء الاصطناعي موجة من التفاؤل في الأسواق المالية، ما ساعد على تجنب تباطؤ واسع خلال الشهور الماضية.
لكن التهديدات الجديدة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض رسوم ضخمة على الواردات الصينية أعادت القلق إلى الواجهة، إذ يخشى المستثمرون من أن تؤدي إلى تباطؤ عالمي جديد، في ظل ارتفاع مستويات الدين العام واحتمال تكوّن فقاعة في أسهم التكنولوجيا.
واشنطن تستضيف اجتماعات الصندوق والبنك وسط توترات عالمية
وتتجه الأنظار هذا الأسبوع إلى واشنطن، حيث يلتقي وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية من مختلف دول العالم للمشاركة في الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
ويتصدر جدول أعمال اللقاء بحث خطة المساعدات الأميركية بقيمة 20 مليار دولار لدعم العملة الأرجنتينية، ومقترحات استغلال الأصول الروسية المجمّدة لصالح أوكرانيا، إلى جانب مناقشة تداعيات التصعيد التجاري بين واشنطن وبكين.
ويأتي الاجتماع في مناخ سياسي واقتصادي متوتر، مع تفاقم الاضطرابات في دول عدة، من فرنسا إلى اليابان، وتنامي المخاوف من ركود عالمي محتمل.
تحسن نسبي منذ أبريل.. لكن الخطر لم ينتهِ بعد
في أبريل الماضي، كانت التوقعات أكثر قتامة بعدما فجّر ترامب موجة ذعر بإعلانه فرض رسوم جديدة في ما وصفه بـ"يوم التحرير الاقتصادي"، ما دفع الأسواق إلى تراجع حاد آنذاك. غير أن النصف الثاني من العام حمل مفاجآت إيجابية، إذ نما الاقتصاد الأمريكي في الربع الثاني بأسرع وتيرة له منذ عامين، مدعوماً باستثمارات ضخمة في مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي.
ورغم أن تهديدات ترامب الأخيرة هزّت الأسواق يوم الجمعة، فإن مؤشر ستاندرد آند بورز 500 سجل ارتفاعاً بأكثر من 30% منذ أبريل، مما يعكس ثقة المستثمرين في قدرة الشركات على امتصاص الصدمات مؤقتاً.
ومع ذلك، حذّرت الخبيرة الاقتصادية في جامعة هارفارد كارين دينان من أن هذا الصمود "لن يدوم طويلاً"، متوقعة تباطؤاً تدريجياً في الاقتصاد العالمي خلال الفترة المقبلة.
ديون عالمية قياسية ومخاطر اقتصادات ناشئة
يشكّل تصاعد مستويات الدين العالمي أحد أبرز التحديات المطروحة أمام اجتماعات واشنطن، إذ أظهرت بيانات معهد التمويل الدولي أن إجمالي الدين حول العالم ارتفع بأكثر من 21 تريليون دولار في النصف الأول من العام، ليصل إلى مستوى قياسي يقارب 338 تريليون دولار، وهي زيادة مماثلة لتلك التي سُجلت خلال جائحة كورونا.
كما تعود الأرجنتين إلى دائرة الاهتمام الدولي مجدداً، بعد أن وافق صندوق النقد الدولي في أبريل على تقديم دعم إضافي لها، وسط تحركات أميركية لتعزيز المساعدات قبيل الانتخابات النصفية المرتقبة في البلاد.
تباطؤ التجارة وتراجع الصناعة
على صعيد الأداء الاقتصادي، سجل سوق العمل الأميركي تباطؤاً في وتيرة التوظيف خلال الأشهر الأخيرة، في حين واصل قطاع التصنيع فقدان الوظائف للشهر الرابع على التوالي.
وفي الصين، تراجع نشاط المصانع للشهر السادس على التوالي، وهو أطول ركود صناعي منذ عام 2019. أما الاقتصاد الألماني، فقد انكمش بأكثر من التقديرات السابقة خلال الربع الثاني من العام، مما زاد الضغط على قطاع السيارات الموجه للتصدير.
وتوقعت منظمة التجارة العالمية أن يشهد نمو التجارة العالمية تباطؤاً حاداً العام المقبل، مع ارتفاع أحجام تجارة السلع بنسبة 0.5% فقط في عام 2026، مقارنة بـ2.4% هذا العام.
الرسوم الجمركية تضغط على الطلب العالمي
يرى خبراء "سيتي غروب" أن تصاعد الرسوم الجمركية سيؤدي إلى إضعاف الاستهلاك الأميركي والطلب على الواردات، متوقعين أن يتباطأ النمو العالمي إلى أقل من 2% في النصف الثاني من العام، قبل أن يعود إلى 2.5% في 2026.
ويتفق مع هذا الطرح ستيفن جين، الرئيس التنفيذي لشركة "يوريزون إس إل جي كابيتال"، الذي أشار إلى أن تأثير الرسوم عادة ما يظهر بعد ستة إلى ثمانية فصول، وقد يدفع الاقتصاد الأميركي نحو التباطؤ شبه الكامل.
فقاعة تكنولوجية محتملة تقلق الأسواق
وفي موازاة التوترات التجارية، تلوح في الأفق مخاوف من فقاعة جديدة في أسهم التكنولوجيا، مدفوعة بالطفرة غير المسبوقة في الذكاء الاصطناعي.
وحذّرت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا من أن "القيم السوقية الحالية تقترب من المستويات التي شهدناها قبيل انفجار فقاعة الإنترنت في عام 2000"، مشيرة إلى أن أي تصحيح حاد قد يؤدي إلى تباطؤ النمو العالمي ويكشف نقاط الضعف في الاقتصادات النامية.
وتشير تقديرات أوكسفورد إيكونوميكس إلى أن أي تباطؤ حاد في قطاع التكنولوجيا الأميركي قد يخفض النمو العالمي إلى 2% فقط في عام 2026، مقابل 2.5% في التقديرات الحالية.
اقتصاد متماسك ظاهرياً.. هش في العمق
رغم مرونة الاقتصاد العالمي أمام الصدمات المتتالية، إلا أن التهديدات الجديدة بالرسوم الجمركية، وارتفاع الديون، وتضخم أسعار الأصول التكنولوجية، تضع النظام المالي العالمي أمام اختبار جديد.
ويرى محللون أن الأشهر المقبلة ستحدد ما إذا كان هذا "الصمود" هو بداية انتعاش مستدام، أم مجرد هدنة قصيرة تسبق مرحلة أكثر اضطراباً في الاقتصاد العالمي.