السيولة فوق الـ 3 تريليونات: تحدي ”التكوين الرأسمالي” في الاقتصاد السعودي

تشهد المملكة العربية السعودية في عام 2025 مرحلة مالية غير مسبوقة، إذ وصلت السيولة المحلية — بمقياسها الواسع (M3) — إلى ما يقارب 3 تريليونات ريال سعودي، مسجلةً مستويات تاريخية وفق بيانات البنك المركزي السعودي (ساما) وتقارير اقتصادية حديثة.
هذا الرقم لا يعكس فقط متانة الجهاز المالي، بل يكشف أيضًا عن القدرة التمويلية الضخمة التي يمتلكها القطاع المصرفي لدعم النمو والاستثمار.
ومع ذلك، يظل السؤال المطروح اليوم: هل تتحول هذه السيولة الوفيرة إلى استثمارات إنتاجية تعزز الاقتصاد الحقيقي، أم أنها تظل في نطاق الودائع أو القروض قصيرة الأجل؟
بين وفرة السيولة وضغوط "جودة" الائتمان
ارتفاع السيولة بهذا الحجم يعكس عدة عوامل مترابطة؛ أهمها ارتفاع الإيرادات النفطية، واستمرار الإنفاق الحكومي المتوازن، وثقة المستثمرين في السياسة النقدية للمملكة.
كما ساهمت مشروعات “رؤية 2030” في ضخ مزيد من الأموال داخل النظام المالي.
لكن في المقابل، تظهر مؤشرات على أن نمو القروض في بعض الفترات يتجاوز نمو الودائع؛ إذ وصلت نسبة القروض إلى الودائع إلى نحو 106% في الربع الأول من 2025 بحسب تقرير “Alvarez & Marsal”.
هذا الارتفاع يشير إلى أن السيولة يتم توظيفها بالفعل، لكن التحدي الحقيقي لا يكمن في وفرة الأموال، بل في كيفية توجيهها نحو مشاريع إنتاجية مبتكرة تحقق قيمة مضافة طويلة الأجل، وليس فقط نحو الإقراض الاستهلاكي أو المضاربة العقارية.
صُنّاع الاستثمار: دور الصناديق والقطاعات الإنتاجية
في ظل هذه الوفرة النقدية، تبرز آلية توجيه السيولة عبر مؤسسات الدولة الكبرى:
1. القوة الاستثمارية لصندوق الاستثمارات العامة (PIF)
يعد صندوق الاستثمارات العامة هو المحرك الأكبر لتحويل السيولة الحكومية الضخمة إلى تكوين رأسمالي منتج.
فاستثمارات الصندوق في المشاريع العملاقة (Giga-Projects) مثل نيوم، ومشروعات تطوير قطاعات السياحة والطاقة المتجددة والبنية التحتية، تمثل الرافعة الأساسية التي تضمن أن جزءاً كبيراً من السيولة يتحول إلى أصول إنتاجية طويلة الأجل تخلق وظائف دائمة وقيمة اقتصادية.
2. مؤشرات تدعو للتفاؤل... بحذر
يظل القطاع العقاري من أكبر المستفيدين من وفرة السيولة، مع ارتفاع عقود “إيجار” بنسبة 40% في سبتمبر 2025.
هذه المؤشرات إيجابية وتعكس تنشيطًا اقتصاديًا واسعًا. إلا أن تركّز السيولة في قطاع واحد يحمل مخاطر الاعتماد المفرط على العقار كمحرّك للنمو.
الاقتصاد الوطني بحاجة إلى توزيع أفضل للسيولة عبر دعم قطاعات الصناعة التحويلية، والخدمات اللوجستية، والتقنية المتقدمة. وفي هذا السياق، نشهد تحركات نوعية من شركات كبرى مثل أرامكو السعودية، التي وقّعت شراكة مع Nvidia لتطوير تطبيقات الحوسبة الكمية، وهو ما يمثل تحولاً استراتيجياً نحو الاقتصاد المعرفي.
السياسة النقدية كأداة لتوجيه كفاءة السيولة
يلعب البنك المركزي السعودي (ساما) دورًا محورياً في إدارة السيولة وتوجيهها بما يحقق التوازن بين الاستقرار المالي والنمو الاقتصادي.
ومع تجاوز حجم السيولة ثلاثة تريليونات ريال، تبرز الحاجة إلى أدوات مبتكرة لضمان أن تتحول هذه الوفرة إلى تمويل منتج ومستدام.
من أبرز هذه الأدوات:
* تعزيز برامج التمويل الموجّه: يجب ربط برامج التمويل الميسر للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، التي تدعمها مؤسسات مثل "كفالة"، بأداء حقيقي ومؤشرات واضحة للتوظيف والإنتاج، وتبسيط إجراءات الوصول إليها.
* توسيع نطاق التمويل الأخضر: لتوجيه رؤوس الأموال نحو مشاريع الطاقة المتجددة والبنية التحتية الذكية، تماشياً مع الأهداف البيئية للمملكة.
* حوافز تنظيمية للبنوك: منح مزايا تنظيمية للبنوك التي تزيد من نسب التمويل الإنتاجي طويل الأمد على حساب التمويل الاستهلاكي، بما يسهم في خلق قيمة مضافة داخل الاقتصاد المحلي.
وبحسب صندوق النقد الدولي، فإن النظام المصرفي السعودي يتمتع بـ“رأسمال قوي وربحية مرتفعة”، لكنه يشير أيضًا إلى ضرورة مراقبة نمو الائتمان المتسارع وضمان أن يبقى موجهًا نحو القطاعات المنتجة وليس فقط القطاعات ذات العائد السريع.
من الوفرة إلى الكفاءة الاقتصادية
الهدف ليس تقليص السيولة، بل رفع كفاءتها الاستثمارية. فوفرة النقد تمثل نقطة قوة للاقتصاد، لكنها قد تتحول إلى عبء إذا ظلت دون توظيف فعّال. الاقتصاد الحقيقي يُقاس بقدر ما تنتجه رؤوس الأموال من فرص عمل، وإنتاج صناعي، وابتكار تقني، لا بمجرد نمو الأرصدة المصرفية.
المرحلة الراهنة تتطلب توازناً دقيقاً بين استقرار النظام المالي وتحفيز التمويل الإنتاجي. وإذا استطاعت البنوك أن تتحول من دور "الوسيط المالي" إلى شريك في التنمية والاستثمار، فإن وفرة السيولة ستصبح أداة لنهضة اقتصادية شاملة، لا مجرد مؤشر على التكدس النقدي.
وختاما.. إن تجاوز السيولة في الاقتصاد السعودي مستوى 3 تريليونات ريال يعكس ثقة الأسواق وكفاءة إدارة السياسة المالية.
لكنه في الوقت نفسه يمثل مسؤولية وطنية لتوجيه هذه القوة التمويلية نحو التنمية الحقيقية. فبينما رفع صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو المملكة في عام 2025 إلى نحو 4%، فإن الحفاظ على هذا الزخم يتطلب توسيع قاعدة الاستثمار الإنتاجي عبر تكامل أدوار البنوك وشركات القطاع الخاص وصناديق التنمية الحكومية.
حين تتحول هذه الأرقام في دفاتر البنوك إلى مصانع تعمل، ومختبرات تُبتكر فيها الحلول، ومشاريع تقنية تُدار بكفاءات سعودية، يمكن عندها القول إن السيولة الوفيرة لم تبقَ رقمًا في الإحصاءات، بل أصبحت قيمة اقتصادية مضافة تُترجم إلى تنمية حقيقية ومستدامة.