صلابة الاقتصاد السعودي: فاعلية السياسات تؤتي ثمارها

في خضم التحديات الاقتصادية العالمية المعقدة التي تتسم بارتفاع معدلات التضخم وتباطؤ النمو واضطراب سلاسل الإمداد، ترسم المملكة العربية السعودية مسارًا استثنائيًا، مبحرةً بثقة نحو تحقيق مستهدفات رؤية 2030. هذا الاقتصاد، الذي كان يُنظر إليه سابقًا باعتباره مرهونًا لتقلبات سوق النفط، يتخذ اليوم شكلًا جديدًا، أكثر مرونة وتنوعًا، وقد جاءت الإشادة الأخيرة من مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، لتعزز هذا التوجه. فقد وصفت جورجيفا إعادة تقييم المملكة لخطط الإنفاق بأنها "خطوة ضرورية جدًا" في عالم يتغير بسرعة، مما يؤكد أن النهج المالي السعودي يحظى باحترام المؤسسات الدولية، ويعكس إدراكًا عميقًا لضرورة المواءمة بين الطموح والواقعية في إدارة الاقتصاد.
كفاءة الإنفاق: مفتاح المرحلة الجديدة
هذا التحول لم يعد مجرد طموح، بل يرتكز على تطبيق عملي لمبدأ كفاءة الإنفاق وتحديد الأولويات بصرامة منذ إطلاق الرؤية. إن اللافت في المرحلة الراهنة هو انتقال هذه المبادئ من خانة النظريات إلى التطبيق العملي الفعلي. فقد كان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حاسمًا حين أشار إلى أن أي مشروع أو مستهدف لا يخدم المصلحة العامة قد يخضع لإعادة التقييم أو حتى الإلغاء. هذه الجرأة والشفافية في اتخاذ القرار هي التي تمنح الخطط التنموية السعودية مصداقية جديدة، لأنها تبعث برسالة واضحة مفادها أن الاستدامة والجدوى الاقتصادية الوطنية هما المعيار الأوحد، وأن لا قداسة للخطط إذا لم تكن مجدية.
اقتصاد لا يعتمد على النفط فقط: التنويع كواقع ملموس
إن الأثر المباشر لهذا النهج المنضبط تجسَّد في إنجاز تاريخي يتمثل في تجاوز مساهمة الأنشطة غير النفطية حاجز الـ 50% من الناتج المحلي الإجمالي لأول مرة. هذا الرقم هو شهادة على نجاح استراتيجية التنويع، وإعلان رسمي بأن الاقتصاد السعودي أصبح متعدد الأذرع، يستند إلى قوة قطاعات النمو الجديدة. حيث يتكئ على قطاعات واعدة كالسياحة والترفيه والتقنية والخدمات المالية والصناعات الإبداعية، محققًا نموًا سنويًا ملحوظًا في القطاعات غير النفطية بمعدل 4.4%، وتوقعات بزيادة الصادرات غير النفطية إلى مستويات قياسية. هذه الأرقام تؤكد أن التنويع لم يعد مجرد مشروع مستقبلي، بل واقع اقتصادي ملموس يُبنى عليه.
التوسع في الإنفاق: بحساب ودراية مالية
في سياق هذا التوسع، تبرز مسألة العجز المالي المخطط له، حيث إن التوقعات بوصوله إلى 165 مليار ريال في ميزانية 2026، لا يجب أن يُنظر إليها كضعف. الحكومة السعودية تتعامل مع هذا العجز بشفافية كاملة، وتوضح في الوقت ذاته أن الاستدانة لتمويله تُعد استثمارًا مدروسًا يهدف إلى تغطية نفقات مشروعات تنموية ذات عائد مرتفع يتجاوز كلفة الاقتراض، كما أوضح وزير المالية محمد الجدعان. الأهم أن هذا الإنفاق الإضافي، مثل الزيادة البالغة 51 مليار ريال هذا العام، يُوجَّه إلى مشروعات تنموية منتجة، ولا يُنفق على مصروفات استهلاكية أو دعم بلا جدوى، مما يؤكد أن الزيادة هي نتاج مراجعة للأولويات واحتياجات الاقتصاد، وليست دليلًا على انفلات مالي.
ثقة الأسواق: مرآة الانضباط المالي
هذا الانضباط المالي والواقعية في التخطيط هو ما تراقبه الأسواق الدولية. فثقة الأسواق لا تُمنح اعتباطًا، لكن نظرة المؤسسات المالية الدولية والمستثمرين ووكالات التصنيف إلى السعودية تشير بوضوح إلى أنها تنجح في بناء صورة اقتصادية موثوقة. على الرغم من أن تحديات أسعار النفط والمشهد العالمي غير المستقر ما زالت قائمة، إلا أن الفارق الجوهري هو أن المملكة باتت اليوم أكثر استعدادًا، ليس فقط لامتصاص الصدمات، بل لتحويل التحديات إلى فرص استثمارية. الاقتصاد السعودي لا يمر بمرحلة "ازدهار مؤقت"، بل بمرحلة "إعادة تشكيل هيكلي عميق" تتسم بالجرأة في القرار والواقعية في التمويل.
ختامًا، النظرة الإيجابية للاقتصاد السعودي ليست تفاؤلًا مجانيًا، بل هي قراءة منطقية لخطوات مدروسة بدأت تؤتي ثمارها تدريجيًا. وإذا استمرت المملكة على هذا النهج، فمن المرجح أن نشهد خلال السنوات القليلة القادمة اقتصادًا سعوديًا جديدًا، أكثر توازنًا وقدرة على التكيف، وذا تأثير أعمق في محيطه الإقليمي والدولي.