سامر شقير يكتب: كيف تستثمر السعودية في العقول والتقنية؟

في يوم واحد، الأحد 28 سبتمبر، برز خبران لافتان يعكسان بوضوح ملامح التحول الاقتصادي في السعودية: أولهما توقيع شراكات جديدة مع كوريا الجنوبية في مجالات الذكاء الاصطناعي والمدن الذكية، وثانيهما دخول صندوق الاستثمارات العامة في صفقة استحواذ ضخمة على شركة "إلكترونيك آرتس" (EA)، إحدى أكبر شركات صناعة ألعاب الفيديو في العالم.
قد يبدو الخبران منفصلين للوهلة الأولى، لكن في الحقيقة، كلاهما يسير في الاتجاه نفسه: بناء اقتصاد سعودي جديد، قائم على المعرفة والتقنية، لا على الموارد الطبيعية فقط.
صندوق الاستثمارات العامة: استثمار في صناعة التأثير
لم يعد صندوق الاستثمارات العامة يكتفي بضخ الأموال في القطاعات التقليدية، بل أصبح أداة استراتيجية لإعادة تشكيل موقع المملكة في خريطة الاقتصاد العالمي.
استحواذه على حصة في "إلكترونيك آرتس" ليس مجرد صفقة مالية، بل خطوة محسوبة للدخول إلى صناعة تتقاطع مع الذكاء الاصطناعي، والميتافيرس، وسلوك الأجيال الجديدة. فالألعاب اليوم، لم تعد "ترفيهًا رقميًا" وحسب، بل صارت مساحة ضخمة لتطوير خوارزميات الذكاء الاصطناعي، واختبار التفاعلات البشرية مع الآلات، وتوليد محتوى رقمي يُستخدم لاحقًا في تطبيقات متعددة.
تقدّر قيمة سوق الألعاب العالمية بأكثر من 200 مليار دولار هذا العام، وتُظهر التوقعات أن هذا الرقم سيستمر في النمو بسرعة. لذلك، فإن دخول السعودية في هذا القطاع يعني أنها لا تكتفي باستهلاك التقنية، بل تسعى للمشاركة في صناعتها وتوجيهها أيضًا.
الأهم من كل ذلك، هو أن مثل هذه الاستثمارات تفتح الباب أمام الشباب السعودي، المتعطش للعمل في مجالات التكنولوجيا والترفيه الرقمي، ليكون جزءًا من هذه المنظومة، سواء من خلال التوظيف، أو ريادة الأعمال، أو حتى تطوير الألعاب والمحتوى محليًا.
كوريا الجنوبية: شراكة قائمة على المعرفة لا السلع
في الاتجاه الآخر، نشهد تنامي العلاقات الاقتصادية مع كوريا الجنوبية، ولكن هذه المرة، ليس فقط من خلال استيراد المنتجات أو البنية التحتية، بل عبر نقل الخبرات التقنية في مجالات حساسة مثل الذكاء الاصطناعي والمدن الذكية.
ارتفاع عدد التراخيص الاستثمارية الكورية في السعودية من 65 إلى 213 منذ عام 2016 ليس مجرد رقم، بل مؤشر على أن هناك رغبة حقيقية من الجانبين لبناء علاقات طويلة الأمد، تتجاوز العقود التقليدية إلى بناء قدرات محلية.
سامسونج، هيونداي، وشركات أخرى، باتت تشارك في مشاريع تتعلق بإدارة البيانات، تشغيل المدن الذكية، تطوير المصانع المؤتمتة، وغيرها. وهذا يتطلب أكثر من مجرد رأسمال: يتطلب عقولًا مدرّبة، وبيئة ابتكار، وثقة متبادلة.
ما يلفت الانتباه هنا هو أن السعودية بدأت تضع الذكاء الاصطناعي كعنصر جوهري في البنية التحتية الجديدة، وهو توجه ينسجم تمامًا مع مستهدفات رؤية 2030، لكنه في الوقت نفسه، يشكل تحديًا في ما يخص سرعة تأهيل الكوادر الوطنية، واللحاق بالتطور التكنولوجي العالمي.
من اقتصاد المادة إلى اقتصاد الفكرة
ما يجري اليوم في السعودية هو تحول جذري، ليس في نوعية الاستثمارات فقط، بل في طريقة التفكير الاقتصادي.
الانتقال من الاعتماد على النفط إلى الاستثمار في الذكاء، ليس مجرد شعار، بل واقع تشكله خطوات عملية: شركات تقنية تُستقطب، شراكات تُوقّع، واستثمارات تُوجه نحو صناعة المستقبل، لا نحو تكرار الماضي.
لكن هذا التحول لا يتم بين ليلة وضحاها. فبين الرؤية والتنفيذ، هناك حاجة إلى تطوير التعليم، وإعادة بناء المهارات، وتوفير بيئة حاضنة للإبداع والمنافسة.
ومع ذلك، فإن مجرّد دخول السعودية بثقلها المالي والفكري إلى قطاعات مثل الألعاب والذكاء الاصطناعي، هو مؤشر على أن المملكة لم تعد تنتظر المستقبل، بل تسعى إلى المشاركة في صناعته.
الخلاصة
بين الذكاء الاصطناعي والألعاب الإلكترونية، وبين كوريا الجنوبية و"إلكترونيك آرتس"، هناك خيط ناظم: استثمار السعودية في العقول، لا في الموارد فقط.