بين جودة الأصول وتحديات التمويل
سامر شقير يكتب: السعودية تعيد رسم سوق الائتمان

دعوني أبدأ بتأكيد حقيقة مهمة، أن سوق الائتمان في المملكة يمر بمرحلة نمو استثنائية وزخم لم نعهده سابقاً، هذا الزخم ليس مجرد أرقام عابرة، بل يقوم على أسس صلبة للغاية، جودة أصول مصرفية قوية، نمو مطرد في ودائع البنوك، والأهم قدرة سداد مريحة لدى الشركات والأفراد.
وفي رأيي، هذا هو تحديداً ما دفع وكالة موديز لتصف هذا الوضع بأنه انتقال إلى دورة ائتمانية جديدة، أكثر نضجاً واستقراراً، وتُدار بعقلية مالية متقدمة.
استقرار التصنيف: شهادة دولية تُعزز الموقع
النظرة المستقبلية المستقرة التي منحتها وكالات التصنيف للاقتصاد السعودي ليست مجرد تقييم فني عابر، بل شهادة دولية على صلابة النمو المحلي.
فبينما تتأثر اقتصادات كبرى حول العالم بتباطؤ الائتمان وتذبذب أسعار الفائدة، تبرز السعودية كنموذج اقتصادي يعتمد على جهود تنويع حقيقية تُدار بكفاءة من الداخل.
ويشير محللو موديز إلى أن الاقتصاد السعودي أقل تأثراً بالظروف الائتمانية العالمية مقارنة بكثير من نظرائه، والسبب واضح، التحول في دفة النمو من الاعتماد على الإنفاق العام إلى الاستثمار في قطاعات إنتاجية جديدة يقودها القطاع الخاص.
تنويع أدوات التمويل: وداعاً للاعتماد الأحادي
توضح بيانات السوق أن البنوك السعودية تُجري تحولاً هيكلياً جذرياً في مصادر تمويلها. لقد كان الاعتماد في السابق شبه كامل على ودائع العملاء، أما اليوم فقد تغيّرت الصورة جذرياً. تتجه البنوك بقوة نحو إصدارات الصكوك والسندات والقروض المشتركة للمشاريع العملاقة.
هذا التحول يحمل مكاسب مضاعفة؛ فهو لا يرفع فقط كفاءة السيولة المصرفية، بل يضع البنوك السعودية في موقع ريادي إقليمي. ومن منظور إدارة الثروات، فإن هذا التنوع المالي يرفع كفاية رأس المال ويُعزز من ملاءة البنوك وقدرتها على التوسع في الإقراض دون المساس بجودة الأصول.
الفجوة التمويلية: ديناميكية تتطلب الابتكار
على الرغم من استمرار نمو الودائع بوتيرة قوية، يبقى لدينا تحدٍ هيكلي يجب الإشارة إليه، الطلب على الائتمان يتجاوز نمو الودائع، مما يخلق فجوة تمويلية.
لكن دعوني أشدد هنا، هذه الفجوة لا تعكس نقطة ضعف، بل هي نتيجة طبيعية لـ ديناميكية الاقتصاد السعودي المتسارع، إنها تدفع البنوك نحو ابتكار أدوات تمويلية جديدة والبحث عن سيولة في أسواق رأس المال المحلية والدولية.
كما أن مشاريع صندوق الاستثمارات العامة (PIF) تعمل كـ "قاطرة نمو" ضخمة، تسحب خلفها عربات الائتمان في قطاع الشركات، بينما يواصل الرهن العقاري السكني دعم إقراض الأفراد. هذا التوسع المتوازن يعكس عمق السوق وقدرتها على تمويل التنمية من الداخل دون الاعتماد المفرط على التمويل الأجنبي.
جودة الأصول: وسادة الأمان في مواجهة العالم
من العوامل الجوهرية التي تدعم النظرة الإيجابية، وفقاً لتقرير موديز، أن جودة الأصول المصرفية في السعودية تظل ضمن الأفضل إقليمياً، مع انخفاض ملحوظ في نسب التعثر. هذه الجودة، إلى جانب قدرة الشركات والأفراد على السداد، تمنح القطاع المصرفي "وسادة أمان حقيقية" لامتصاص الصدمات الخارجية.
وهنا يجب أن نتوقف عند نقطة مهمة، الاستقلالية السعودية في دورة الائتمان هي استقلالية في جودة الأصول والطلب المحلي، لا في تكلفة التمويل العالمية. فالنظام المالي يظل مرتبطاً بأسعار الفائدة الدولية بسبب ارتباط الريال بالدولار، وهنا تتجلى مهارة الإدارة الاقتصادية السعودية في الحفاظ على رباطة الجأش وقوة الأداء دون الانفصال عن حركة السيولة العالمية.
آفاق 2025: رهان النمو المستدام
تتوقع موديز أن يستمر الائتمان السعودي في النمو بقوة خلال عام 2025، مدفوعاً بتمويل المشاريع الكبرى والنشاط العقاري. وعلى المدى المتوسط، من المرجح أن نشهد تباطؤاً تدريجياً، وهو ما أراه مرحلة تصحيح طبيعية في دورة نمو صحية ومستدامة، تسعى فيها البنوك إلى موازنة نمو الودائع مع القروض والامتثال لرقابة تنظيمية أكثر تشدداً.
في الختام، أرى أن ما تشهده السعودية اليوم هو نموذج متكامل لإدارة الثروة الوطنية؛ تتحول فيه الفوائض إلى مشاريع إنتاجية تمول نفسها عبر أدوات مالية حديثة.
لكن يبقى التحدي الحقيقي أمام البنوك في السنوات المقبلة هو تحقيق التوازن بين الطلب الحكومي العملاق والاحتياجات التمويلية للقطاع الخاص الصغير والمتوسط.
إن نجاحنا في تحقيق هذا التوازن سيكون المؤشر الأهم على نضج السوق الائتمانية السعودية واستدامة نموها لعقود قادمة.