الأحد 12 أكتوبر 2025 07:48 صـ 19 ربيع آخر 1447 هـ
بوابة بالعربي الإخبارية
المحرر العام محمد رجب سلامة
×

الصناعة السعودية.. من البتروكيماويات التقليدية إلى التصنيع المعرفي

السبت 11 أكتوبر 2025 11:05 مـ 18 ربيع آخر 1447 هـ
الخبير الاقتصادي سامر شقير
الخبير الاقتصادي سامر شقير

المملكة تعيد تشكيل خارطتها الصناعية وترسخ مكانتها كمركز محوري للتقنية والقيمة المضافة

في مشهد يعكس التحول البنيوي للاقتصاد السعودي، لم تأتِ مشاركة المملكة في المعرض التجاري الدولي للبلاستيك والمطاط "K Show 2025" بمدينة دوسلدورف الألمانية كحدث عابر، بل كتأكيد على أن الصناعة السعودية تنتقل بثقة من عهد الميزة المطلقة للمحروقات إلى عهد الميزة المكتسبة للتقنية والمعرفة.

فقد أكد وزير الصناعة والثروة المعدنية بندر بن إبراهيم الخريّف أن ما تحقق في قطاع البتروكيماويات ليس سوى بداية لمسار أوسع يستهدف بناء منظومة صناعية تركز على توطين الصناعات الوسيطة والنهائية، مما يعزز مستهدفات التنويع الاقتصادي الوطني بحلول عام 2030.

بيئة استثمارية تنافسية واستقطاب الكفاءات

أكد الخريّف أن المملكة توفر اليوم حزمة استثنائية من الممكنات والحوافز لجذب الاستثمارات المحلية والدولية في الصناعات التحويلية.
وتتميز بيئة الاستثمار الصناعي بقدرات بشرية مؤهلة، وموقع جغرافي استراتيجي يربط بين ثلاث قارات، إلى جانب وفرة الموارد الطبيعية وأسعار الطاقة التنافسية.

هذه العوامل مجتمعة تحوّل المملكة من كونها سوقًا استهلاكية إلى أن تكون منصة إقليمية للتصنيع والتصدير. كما أن استقطاب الاستثمارات الأجنبية لم يعد هدفًا بحد ذاته، بل وسيلة لـنقل التقنية وتعميق القيمة المضافة في سلاسل الإنتاج الوطنية.
ومع ذلك، يظل التحدي الأكبر ليس في جذب رأس المال فحسب، بل في توفير الكفاءات الهندسية والإدارية المحلية المدربة على تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، وهي الفجوة التي يجب سدها بوتيرة تواكب سرعة التوسع الصناعي.

مشاريع التحول النوعي: القيادة بالثورة الصناعية الرابعة

في إطار هذا التحول النوعي، أشار الوزير إلى مبادرات رائدة تقودها منظومة الصناعة، أبرزها برنامج مصانع المستقبل الذي يستهدف تمكين نحو 4,000 مصنع من تبني تطبيقات الأتمتة والتحول الرقمي.
كما أشار إلى برنامج المنارات الصناعية الذي يُشرك المصانع الوطنية ضمن شبكة المنارات الصناعية العالمية التابعة للمنتدى الاقتصادي العالمي، لضمان تبنيها أفضل الممارسات في كفاءة الطاقة وسلاسل الإمداد الرشيقة.

هذه المبادرات تمثل نقلة في فكر الصناعة، إذ لم تعد التنمية الصناعية قائمة على مجرد التوسع في الكم، بل أصبحت ترتكز على التحول الرقمي، والكفاءة التشغيلية، والاستدامة — وهي المفاهيم الجوهرية للإنتاجية الحديثة.

شراكات استراتيجية لتوطين التقنية والمعرفة

وعلى هامش فعاليات المعرض، عقد الخريّف سلسلة اجتماعات مع مسؤولي شركات ألمانية رائدة في الصناعات الكيماوية والهندسية، تم خلالها بحث فرص نقل التقنيات المتقدمة وتبادل الخبرات.
وشهدت الفعاليات توقيع عدد من الاتفاقيات، من أبرزها مذكرة تفاهم بين المركز الوطني للتنمية الصناعية وشركة Flender الألمانية لإنشاء مركز لصيانة قطع غيار المعدات الصناعية داخل المملكة، مما يعزز توطين خدمات ما بعد البيع ويقلل الاعتماد على الاستيراد.

كما تم توقيع عقود تعاون لتوسيع خطوط إنتاج البولي بروبلين، ما يعزز التكامل الصناعي بين الجانبين السعودي والأوروبي.
إن هذه الشراكات تعكس إدراك المملكة لأهمية ربط الصناعة الوطنية بالاقتصاد العالمي، لا عبر الاستيراد فحسب، بل عبر نقل التقنية وتوطين المعرفة وبناء القدرات المحلية في قطاعات البوليمرات الهندسية والتقنيات عالية الكثافة المعرفية.

رأي تحليلي: من اقتصاد الريع إلى اقتصاد القيمة المكتسبة

من زاوية تحليلية متعمقة، يمكن القول إن ما يجري اليوم في القطاع الصناعي السعودي يمثل تحولًا بنيويًا عميقًا في فلسفة التنمية.
فالمملكة تنتقل بثقة من مرحلة تصدير المواد الخام إلى مرحلة إنتاج وتصنيع المواد ذات القيمة المضافة العالية.

إن برامج التصنيع المتقدم، والشراكات مع كبرى الشركات العالمية، وتوطين سلاسل الإمداد، كلها تعكس أن السعودية تخطو نحو اقتصاد إنتاجي معرفي يقوده الابتكار والتقنية، لا الموارد وحدها.
وبهذا المعنى، فإن الصناعة السعودية لا تمثل قطاعًا اقتصاديًا فحسب، بل مشروعًا وطنيًا متكاملاً يُشرك الاقتصاد والتعليم والتقنية معًا، ويؤسس لمكانة المملكة كمركز صناعي محوري في المنطقة والعالم.

خاتمة وتوقع

إن ما عبّر عنه الوزير بندر الخريّف في دوسلدورف ليس مجرد إعلان عن نجاحات حالية، بل تأكيد على أن السعودية تخوض رحلة تحول صناعي عميقة تهدف إلى بناء اقتصاد متنوع ومستدام.
ومع استمرار هذا الزخم في تطوير البرامج الصناعية والشراكات التقنية، تبدو المملكة في طريقها لأن تصبح واحدة من أهم القوى الصناعية في القرن الحادي والعشرين، خاصة إذا نجحت في تحقيق هدفها برفع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي إلى 14% بحلول عام 2030 — قوة تصنع المستقبل، لا تستهلكه.

تلك هي السعودية الجديدة التي تُعيد تعريف الصناعة بوصفها أداة للنهوض الوطني، لا مجرد قطاع اقتصادي.