شانيل.. كيف بنت يتيمة ”إمبراطورية الأناقة” من رحم الألم والحرية؟

عندما يُذكر اسم "شانيل" (Chanel)، تذهب الأذهان فوراً إلى الفخامة، وحقائب الجلد المبطّنة، وعطر "No.5" الأيقوني. لكن خلف هذه الإمبراطورية التي تُقدّر بمليارات الدولارات، تقف حكاية ملهمة ومعقدة لسيدة واحدة، هي غابرييل "كوكو" شانيل، التي لم تصمم الأزياء فحسب، بل أعادت تعريف معنى أن تكوني امرأة في القرن العشرين.
من الفقر إلى أول خيط ثورة
بدأت الحكاية في دير فرنسي بارد، حيث نشأت غابرييل شانيل يتيمة بعد وفاة والدتها ورحيل والدها. تلك السنوات من التقشف والبساطة طبعت رؤيتها الجمالية لبقية حياتها.
انطلقت "كوكو" إلى الحياة لتعمل كمغنية في مقهى، وهناك برزت شخصيتها الفريدة.
لم تكن تشبه فتيات عصرها؛ كانت ترفض القيود الاجتماعية والجسدية، وعلى رأسها مشد الخصر (الكورسيه)، الذي رأته رمزاً لألم المرأة غير الضروري في سبيل الجمال.
بدأت ثورتها الفعلية بخياطة قبعات بسيطة وأنيقة لنفسها، لفتت بها أنظار نخبة المجتمع، ومن بينهم رعاة أثرياء مثل إتيان بالسان، الذي فتح لها الباب لعالم الرفاهية. لكن شانيل رفضت أن تكون مجرد ظل، وأصرت على أن تصنع اسمها بنفسها.
تأسيس الإمبراطورية وولادة "البدلة النسائية"
في عام 1910، افتتحت شانيل متجرها الأول في شارع "كامبون" بباريس، متحديةً شكوك مجتمع لا يعترف بسهولة بامرأة تقتحم عالم الأعمال. قدمت تصاميم عملية، وفساتين خفيفة، وأناقة خالية من المبالغة.
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، رأت "كوكو" فرصة في قلب الأزمة. ففي حين توقفت الموضة، كانت النساء ينخرطن في العمل بالمصانع. استخدمت شانيل الأقمشة المريحة وحوّلت تصاميم ملابس الرجال العملية إلى أزياء نسائية، لتولد من رحم الحرب "البدلة النسائية" الأيقونية، كرمز لقوة المرأة العاملة والمستقلة.
مأساة الحب وعطر الخلود
في ذروة نجاحها، عاشت شانيل قصة حب كبيرة مع رجل الأعمال آرثر "بوي" كابل، الذي آمن بموهبتها ودعمها. لكن القدر كان قاسياً، حيث لقي كابل مصرعه في حادث سيارة مأساوي قبل زفافهما بأيام.
هذه المأساة كادت أن تكسرها، لكن من عمق هذا الحزن، استلهمت شانيل ابتكارها الخالد، عطر "Chanel No.5". أحدث العطر ثورة في صناعته، وقدمته شانيل للعالم بمقولتها الشهيرة: "أريد أن أشمّ امرأة... لا وردة"، ليصبح العطر الأكثر مبيعاً في التاريخ ورمزاً للأنوثة العصرية.
ظلال الحرب العالمية الثانية والمنفى
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، أغلقت شانيل متاجرها. لكن هذه الفترة شهدت فصلاً مظلماً ومثيراً للجدل في حياتها.
واجهت "كوكو" اتهامات بالتعاون مع ضابط ألماني رفيع المستوى كانت على علاقة به. هذه الاتهامات لاحقتها لسنوات، مما اضطرها للهروب إلى سويسرا لتعيش في منفى اختياري، بعيداً عن الأضواء التي صنعتها.
العودة المدهشة: "الأناقة لا تموت"
في سن السبعين، وفي خطوة فاجأت عالم الموضة الذي اعتقد أنها انتهت، قررت كوكو شانيل العودة إلى باريس. واجهت النقاد الذين وصفوها بـ"العجوز" بشجاعة لا مثيل لها.
قدمت مجموعة أعادت ترسيخ مكانتها كملكة للموضة بلا منازع. عادت البدل الكلاسيكية (التويد)، واللؤلؤ، والحقائب المبطنة، لتثبت للعالم أن "الأناقة لا تموت"، وأن اسم شانيل أقوى من النسيان أو الجدل.
صدى "شانيل" في الثقافة العربية
لم تقتصر حكاية شانيل على الغرب، بل وجد إرثها صدىً كبيراً في الثقافة العربية.
ولعل أبرز تجسيد لذلك كان عودة الفنانة المصرية الأيقونية "شريهان" إلى الأضواء بعد غياب طويل، عبر مسرحية استعراضية ضخمة بعنوان "Coco Chanel"، جسدت فيها قصة حياة المصممة الفرنسية بكل تقلباتها.
العمل، الذي حمل توقيع المصممة ريم العدل في الأزياء، أعاد تقديم تصاميم شانيل الأيقونية برؤية مسرحية، وعزز حضور قصة كوكو شانيل الملهمة في الوجدان العربي.
كما استمرت العلامة في تعزيز حضورها في المنطقة من خلال ارتباطها بنجوم ومؤثرين عرب بارزين، مثل الممثلة المصرية تارا عماد، والمدونة العراقية ديما الأسدي، اللتين ارتبط اسمهما بفعاليات وعروض "شانيل" الفاخرة.
الإرث الخالد
رحلت غابرييل "كوكو" شانيل وحيدة في جناحها بفندق "ريتز"، لكن إرثها لا يزال حياً ومتجدداً. لم تترك خلفها مجرد تصاميم، بل تركت فلسفة حياة كاملة. فكما قالت يوماً: "أنا لا أصمم الموضة... أنا أصمم الحياة".
واليوم، كل قطعة تحمل توقيع "شانيل" لا تزال تروي حكاية تلك الفتاة اليتيمة، التي خيطت من الألم حرية، ومن الرماد إمبراطورية خالدة.