أرامكو والقفزة النوعية - كيف أصبح الذكاء الاصطناعي شريكاً جوهرياً للطاقة؟
بشأن العلاقة الجوهرية بين الطاقة والتحول الرقمي، يشهد العالم تحولاً غير مسبوق تقوده التقنيات الرقمية المتقدمة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، الذي لا يقتصر تأثيره على قطاع التكنولوجيا فحسب، بل يمتد ليشمل الصناعات الأساسية، وفي مقدمتها قطاع الطاقة.
إن العلاقة التي تربط الذكاء الاصطناعي بقطاع الطاقة ليست مجرد علاقة وظيفية، بل هي علاقة "جوهرية"، فمن ناحية، تعتمد مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي بشكل أساسي على الطاقة لتشغيلها؛ حيث استهلكت هذه المراكز كميات هائلة من الكهرباء العام الماضي، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم بحلول عام 2030. ومن ناحية أخرى، تملك حلول الذكاء الاصطناعي الإمكانية لتعزيز إمدادات الطاقة. وفي ظل التوقعات بارتفاع الطلب العالمي على الطاقة بحلول عام 2050، وخاصة في الاقتصادات الناشئة، لا يمكن إنكار أن الذكاء الاصطناعي أصبح أمراً بالغ الأهمية لإنتاج الطاقة بكفاءة واستدامة وبتكلفة معقولة.

أرامكو: نموذج يحتذى به في دمج الذكاء الاصطناعي
في هذا السياق العالمي المتسارع، تبرز "أرامكو السعودية" كنموذج رائد عالمياً في تطبيق استراتيجية واضحة لتعزيز الاعتماد على الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية المتقدمة. تهدف استراتيجية أرامكو إلى رفع الكفاءة التشغيلية وتسريع الابتكار وتحقيق قيمة إضافية طويلة الأجل عبر جميع أعمالها.
وتُظهر الأرقام حجم هذا الالتزام والتفوق:
* تمتلك أرامكو إمكانية الوصول إلى أكثر من 90 عاماً من بياناتها الخاصة، ويتم توليد مليارات من نقاط البيانات الجديدة يومياً.
* تمكنت الشركة من تشغيل أحد أقوى أجهزة الحاسوب العملاقة في الشرق الأوسط.
* ساهمت هذه البيانات والقدرات الحاسوبية في إنشاء أول نموذج لغوي كبير في قطاع الطاقة.
* رصدت الشركة أكثر من 400 حالة استخدام للذكاء الاصطناعي في جميع أعمالها، مع قناعة بأنها ستسرّع الكفاءة والموثوقية والسلامة في جميع مراحل سلسلة القيمة.
* وصلت القيمة المحققة في أرامكو من التقنية في عام 2024 وحده إلى 4 مليارات دولار، نصفها تقريباً تديره حلول الذكاء الاصطناعي.
القفزة الكمية: استشراف مستقبل الحوسبة
لم تكتفِ أرامكو بتطبيقات الذكاء الاصطناعي التقليدية، بل انطلقت نحو الجيل القادم من التقنيات، متمثلة في الحوسبة الكمية، وهو ما يمثل تحولاً نوعياً وجريئاً في تطوير القدرات التقنية الممتدة لقطاعات الطاقة والمواد والصناعة.
في شراكة استراتيجية مع شركة "باسكال" الفرنسية المتخصصة في الحوسبة الكمية، أطلقت أرامكو أول حاسوب كمي صناعي في المملكة والشرق الأوسط. يتميز هذا الحاسوب بكونه:
* مخصصاً للتطبيقات الصناعية.
* وُضع داخل مركز بيانات "أرامكو" في الظهران.
* يعتمد على تقنية الذرات المحايدة.
* يُعد من بين أقوى الأنظمة التي طوّرتها "باسكال"، بقدرة على التحكم في 200 كيوبِت ضمن مصفوفات ثنائية الأبعاد قابلة للبرمجة. (وتُعد الكيوبِت الوحدة الأساسية للحوسبة الكمية، والتي تسمح للحاسوب بإجراء حسابات معقدة تفوق قدرة الحواسيب التقليدية بأشواط).
إن هذا التعاون، الذي وصفته "باسكال" بأنه إنجاز تاريخي وعلّامة فارقة في مستقبل تقنيات الكم في الشرق الأوسط، يعكس التزام أرامكو بالابتكار وتطوير الحلول الرقمية المتقدمة ذات الفوائد الملموسة. ومن الجدير بالذكر أن ذراع أرامكو لرأس المال الجريء، "واعد فنتشرز"، كان من أوائل المستثمرين الاستراتيجيين في "باسكال" منذ يناير 2023.
كما أن هذا التعاون لا يقتصر على الأجهزة فقط، بل يتضمن أيضاً برامج تدريبية وفرصاً بحثية مشتركة للعلماء والمهندسين السعوديين، بهدف تعزيز منظومة التقنية الكمية محلياً ودعم تنمية المواهب في هذا القطاع الناشئ. وتعزز أرامكو شراكاتها مع الشركات الفرنسية، معلنة عن افتتاح مكتب جديد لـ "أرامكو فينتشرز" في باريس لمواصلة الاستثمار في تقنيات الجيل القادم في أوروبا.
خاتمة: القيادة نحو مستقبل الطاقة الذكية
تؤكد استراتيجية أرامكو أن الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية ليسا مجرد أدوات تكميلية، بل هما الركيزة الأساسية لمستقبل الطاقة المستدام والأكثر كفاءة. إن تركيز الشركة على تسخير البيانات الضخمة، والاستثمار في البنية التحتية للحوسبة المتقدمة، وتنمية المواهب المحلية، يضعها في مصاف الشركات الرائدة التي لا تنتج الطاقة فحسب، بل تُعيد تعريف كيفية إنتاجها واستخدامها.
ويجب على الشركات الأخرى أن تدرك أن الخطوات التي اتخذتها أرامكو، بدءاً من تشغيل الحاسوب العملاق ووصولاً إلى تركيب أول حاسوب كمي صناعي في المنطقة، تجعلها بحق نموذجاً يحتذى به عالمياً يوضح كيف يمكن لشركات الطاقة التقليدية أن تقود الثورة التقنية، محولة العلاقة الجوهرية بين الذكاء الاصطناعي والطاقة إلى قوة دافعة للاقتصاد العالمي.
> للتوضيح: يمكن تشبيه العلاقة بين الطاقة والذكاء الاصطناعي بمحرك السيارة: فالطاقة هي الوقود الذي يدفع محرك الذكاء الاصطناعي ليعمل (مراكز البيانات)، بينما الذكاء الاصطناعي هو نظام الإدارة الذكي الذي يضمن أن يتم استهلاك هذا الوقود بأقصى كفاءة ممكنة لتحقيق أفضل أداء (تحسين إنتاج الطاقة وكفاءتها).












