السياحة بين التقنية والإنسان: الدرس السعودي
يشكّل انطلاق أعمال الدورة الـ26 للجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة للسياحة في الرياض حدثاً تاريخياً فارقاً. فمجرد استضافة المملكة لهذا التجمع، الذي يُعد الأكبر في تاريخ المنظمة منذ نصف قرن، وبحضور 160 وفداً وأكثر من 100 وزير، لا يمثل سابقة تاريخية لمنطقة الخليج فحسب، بل هو تكريس فعلي للمكانة المحورية التي اكتسبتها الرياض كقائد وصانع قرار في القطاع السياحي العالمي.
لم يكن هذا الحدث مجرد اجتماع دوري تحت شعار "السياحة المدعومة بالذكاء الاصطناعي.. إعادة تعريف المستقبل"، تحولت الرياض إلى منصة لرسم مسار نمو القطاع للعقود الخمسة القادمة.
لقد جمعت المملكة قادة العالم لمناقشة دور الابتكار في تعزيز التنمية المستدامة والشاملة، مقدمةً رؤيتها الخاصة التي تبلورت في محاور استراتيجية واضحة: تعزيز التواصل، والاستدامة، والاستثمار في الموارد البشرية، ودعم الابتكار.
وتماشياً مع "رؤية 2030"، تجدد المملكة التزامها بضمان نمو يفتح آفاقاً جديدة، ويعزز الشمولية، ويواصل استضافة العالم بالحفاوة السعودية الأصيلة. إن البنية التحتية المميزة والمرافق العالمية التي استقبلت بها الرياض هذه الوفود، هي الدليل المادي على جدية هذا الالتزام، وعلى القدرة على تحويل الرؤى إلى واقع ملموس.
لكن الابتكار وحده ليس الهدف في الفلسفة السعودية، فتدرك المملكة أن التحول الرقمي السريع يجب أن يخدم الأفراد والأماكن، ويدعم الوظائف والشركات الصغيرة، ويُسهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وفي هذا الصدد، قاد معالي وزير السياحة الأستاذ أحمد بن عقيل الخطيب حواراً دولياً بالغ الأهمية، يوازن ببراعة بين التقنية وجوهر التجربة الإنسانية.
لقد حذر من المبالغة في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي على حساب "جوهر التجربة السياحية المتمثل في التواصل الإنساني"، فالسياحة، في عمقها، تعتمد على التفاعل المباشر لنقل ثقافة وتاريخ الشعوب. ومن هنا، يتم تسخير التقنية لتسهيل الإجراءات، مثل المساعد الافتراضي "نورة"، الذي يوفر معلومات دقيقة دون أن يتحول إلى "بديل كامل عن العنصر البشري".
ولعل الأثر الأعمق والأكثر استدامة لهذه الدورة يكمن في "إعلان الرياض حول مستقبل السياحة". هذه الوثيقة الطموحة، التي تمثل خارطة طريق للمنظمة، ستحدد إطاراً عالمياً لتسخير الذكاء الاصطناعي في القطاع. وبقيادة سعودية، يدعو الإعلان إلى تطوير منهج موحد لتقييم الاستعداد وتبني التقنية، وتوفير إرشادات عملية لإدارة مخاطرها، وتحديد مبادئ مشتركة لتبني أخلاقي وشامل ومسؤول للذكاء الاصطناعي في القطاع.
إن هذا الجهد الدولي يكرّس مسيرة عمل المملكة والتزامها بقيادة التعاون الدولي، ولكن ضمن "شراكة شمولية". وكما أكد الوزير الخطيب، فإن "الشراكات أساس التقدم". ففي النموذج السعودي، يحدد القطاع العام الرؤية، ويقوم المستثمرون والمبتكرون في القطاع الخاص بتحويلها إلى واقع، بينما تضمن المنظمات الأهلية بقاء الشمول والمسؤولية الاجتماعية في صلب هذا التحول.
في الختام، إن ما شهدته الرياض ليس مجرد استقبال دولي، بل هو نقطة انطلاق لمسيرة عمل وتعاون دوليين تحت مظلة المنظمة. لقد نجحت المملكة، عبر هذه الاستضافة، في قيادة حوار عالمي يفتح آفاقاً جديدة لقطاع السياحة، مؤكدةً أن تقنية الغد يجب أن تبقى خادمة للإنسان، والثقافة، والتواصل الأصيل.












